حفتر ولعنة وادي الدوم

عمر الشيخ إبراهيم
لا بد من قراءة في الأبعاد والظروف المحلية والإقليمية والدولية التي رافقت هجوم قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر على الغرب الليبي، الخاضع لسيطرة قوات المجلس الرئاسي ومجموعات الثوار المعارضين لمشروعه. في البعد المحلي، هناك أكثر من نقطة، يجدر الانتباه إليها:
أولاها، الملتقى الوطني الجامع المفترض عقده في 14 إبريل/ نيسان الحالي في ليبيا، وتدعمه الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص إلى ليبيا غسان سلامة. أجمعت عليه الغالبية العظمى من الفاعلين السياسيين ووجهاء القبائل وأعيان المدن والقادة العسكريين، وأبدوا استعدادهم للمشاركة فيه، بينما هاجمه حفتر والموالون له. صحيح أنه ليس الملتقى الأول على الأرض الليبية، ولكنه يتميز عما سبقه بإجماع شعبي ورسمي عليه. وصحيح أيضاً أن ثمة شيئاً من التفاؤل في التعويل عليه أنه سيوصل ليبيا إلى بر الأمان والتوافق، ولكن كان منتظراً منه توسيع المعسكر المناوئ لمشروع خليفة حفتر، بانضمام أعيان وفاعلين سياسيين له، خصوصاً من الشرق الليبي. وفي السياق نفسه، توسيع معسكر الوفاق الوطني الذي أنتج المجلس الرئاسي، بجذب شخصيات سياسية واجتماعية، لم تكن تؤيده سابقاً (قد يكون نوري أبو سهمين الذي عارض اتفاق الصخيرات إحداها). واستبق حفتر انعقاد هذا الملتقى ببدء عمليته العسكرية تجاه طرابلس، لأنه يدرك تماماً أن أي عملية توافق ليبية، مهما كانت ضآلتها، ستؤدي بالضرورة إلى نهايته، فحياته السياسية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً باستمرار الوظيفة التي تؤديها بندقيته، ولذلك يسعى دائماً إلى فتح معارك وهمية أو جبهات جديدة لكي يستمر.
النقطة الثانية، إعلان اللواء أسامة جويلي رفضه العملية العسكرية التي تشنها قوات حفتر غرب ليبيا، وهو إحدى الشخصيات المنحدرة من مدينة الزنتان، والتي تحظى بالنفوذ والاحترام، وقد

عيّنه المجلس الرئاسي قائداً للمنطقة العسكرية الغربية، وكذلك فعل الرائد عماد الطرابلسي المنحدر أيضاً من الزنتان، والذي كان يقود كتيبة الصواعق التي قاتلت، في وقت سابق، قوات “فجر ليبيا” (مليشيات إسلامية غالباً)، واصطفت مع قوات الكرامة، التابعة لحفتر حينها، قبل أن ينقلب عليه، ويكلفه المجلس الرئاسي بمهام رئيس جهاز الأمن العام والتمركزات الأمنية.
انخراط الجويلي والطرابلسي في الدفاع عن طرابلس ضد قوات حفتر أمر في غاية الأهمية، من حيث توسيع الهوة بين الزنتان ومعسكر حفتر والدفع باتجاه إبعاد الزنتان عنه، وهي إحدى أهم المدن في غرب ليبيا، وتشكل مركز ثقل في ميزان القوى على الأرض، تقارب الزنتان ومصراته له بالغ الأثر على تشكيل جبهة موحدة ضد حفتر في غرب ليبيا، يمكن أن تجذب إليها جبهة الجفرة وجنوب ليبيا أيضاً، لما تشكله المدينتان من أهمية سياسية وعسكرية وثقل اجتماعي ومادي. وقد جاءت عملية حفتر لتدعم هذا التوافق، على الرغم من أن أحد أغراضها، والتي رسمها له مدبّروها، كان إحراج معسكر الزنتان والدفع به إلى الابتعاد عن مصراتة وحكومة الوفاق، والالتحاق بها، معتمداً في ذلك على مزاج شعبي في الزنتان، معادٍ لمصراتة، وعلى عنصر المفاجأة والتقدم العسكري السريع في غرب ليبيا، وصولاً إلى المناطق الإدارية للعاصمة طرابلس. وقد اعتقد راسم الأهداف السياسية لهذه العملية أنه سيكسب الزنتان الى جانبه من خلال ذلك، وهو ما فشل به (حتى كتابة هذه السطور).
البعد المحلي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالبعد الإقليمي الذي يؤثر، بشكل كبير، في المشهد الليبي، وخصوصاً في غرب البلاد، المنطقة التي تعد منطقة أمن قومي جزائري، لطالما حذرت الجزائر خليفة حفتر والمحور الداعم له، عربياً وغربياً من المساس بأمنه، والعبث بالاستقرار فيه، وقد تم إبلاغ حفتر بذلك مباشرة في زيارته الوحيدة إلى الجزائر قبل أكثر من عامين. وليس خافياً أن الجزائر تسيّر دوريات عسكرية لها بعمق مئة كيلومتر في داخل التراب الليبي، وتتمتع بعلاقات ممتازة مع كل مدن الغرب الليبي وأعيانه وقياداته السياسية والعسكرية. إذاً، ليس من مصادفةً أن يبدأ حفتر عمليته في خضم الظروف التي تمر بها الجزائر من حراك شعبي واستقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وانشغال المؤسسة العسكرية في ترتيب البيت الداخلي. وهنا يمكن السؤال عما إذا كان حفتر سيجرؤ على القيام بعمليته هذه، لو أن الأوضاع في الجزائر على غير حالها الراهن؟
كما أن العملية تأتي لإرباك المشهد الجزائري الذي يبدو أنه سيكون استثناءً في الربيع العربي الديمقراطي، فالفوضى الأمنية في غرب ليبيا تنعكس بالضرورة على الجزائر وتونس. ومع انتشار السلاح، وتقهقر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سورية والعراق، يزداد الخوف من انتقال عناصر منه إلى الحدود الجزائرية التونسية عبر ليبيا، أو تهريب كميات من السلاح

إلى الخلايا الموجودة في الشعانبي، أو إلى تنظيم القاعدة في الصحراء والمغرب العربي. ومن شأن هذا الحال جعل الهاجس الأمني أولوية للجزائر، خشية أن يؤدي ذلك إلى اختراق في ظل الوضع الذي تعيشه، وبالتالي قد تدخل الجزائر في مفاضلة بين أولوية الأمن أو الديمقراطية، وتعمل القوى المتضررة من أي انتقال ديمقراطي في البلاد إلى الاستفادة من هذا الوضع، لتثبيت مراكزها والالتفاف على مطالب الحراك، وإسكاته بفزاعة الأمن، وهي لعبة تتقنها هذه القوى ببراعة.
بالانتقال إلى البعد الدولي الذي يحيط بالعملية العسكرية التي شنها خليفة حفتر، يريد الداعم الدولي منه تحقيق إنجاز واضح في غرب ليبيا، مناسب للدعم الذي تقدمه هذه الدول له. ويريد هو أن “يحلل” هذا الدعم، ويضمن استمراره، وذلك بفتح جبهات عسكرية محدودة ومتنقلة من فترةٍ إلى أخرى، يرفدها بعملية دعائية إعلامية تهلل لانتصاراته شهوراً وسنوات قبل أن يتحقق. وخير شاهد على ذلك معركة بنغازي التي دامت سنوات ضد مجموعة من المقاتلين لا يتعدّى عددهم مئات، بل يؤكد بعضهم أن هؤلاء كانوا عشرات في أحياء الصابري والليثي والهواري وسوق الحوت، وبقيت قوات حفتر مدعومة بالطيران تقاتلهم سنوات، قبل أن تسيطر على المدينة، سقط خلالها أكثر من تسعة آلاف قتيل حتى أواخر عام 2016، بحسب عضو في إحدى لجان البرلمان الليبي، وقد أعلن حفتر وأذرعه الإعلامية خلال هذه السنوات النصر مراراً وتكراراً قبل أن يتحقق.
وهناك الدور الذي لعبته فرنسا، ومن ورائها أبوظبي، وسط صمت أميركي، في إقناع تيار مؤثر في مدينة مصراتة بالقبول برؤية اقترحتها أبوظبي لحل الأزمة في ليبيا، وذلك بعد الحديث عن توجيه باريس، قبل أشهر، دعوات إلى شخصيات مؤثرة ومسؤولة من مصراتة، واستضافتها في باريس، على الرغم من معارضة روما ذلك، وتمنيها على هذه الشخصيات عدم قبول الدعوة. وبحسب مصادر ليبية مطلعة، فإنه تم قبول سحب صفة القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة الليبية من رئيس حكومة الوفاق الوطني، وهو شرط طالما أصر عليه خليفة حفتر، كما تم القبول بحصة للأخير في حكومة الوفاق المستقبلية، إضافة إلى نقاط أخرى. ودُعم هذا الاتفاق، على ما يبدو، في اللقاء، أخيراً في أبوظبي، بين السراج وحفتر، وبحضور غسان سلامة. ولكن العملية العسكرية أدت إلى تراجع السراج والشخصيات الأخرى التي وافقت على الرؤية الإماراتية عن موقفها، وأعلنت بوضوح أن حفتر ليس أهلاً للثقة، ولا للحوار، وأعلنت النفير العام ضده، وجندت كل قوتها في سبيل ذلك. واللافت أنها المرة الأولى التي يهاجم فايز السراج فيها حفتر بالاسم، وهو الذي كان يتحاشى ذكر اسمه سابقاً.
في ظل هذه المعطيات، ستكون الأيام القليلة المقبلة فاصلة لجهة تحديد ملامح المرحلة المقبلة

في غرب ليبيا، فميدانياً، بدا جلياً أن قوات حفتر تفتقر إلى العنصر البشري المقاتل، على عكس العنصر المادي، حيث مئات سيارات والآليات الجديدة التي يبدو أنها لم تستخدم من قبل، كما أن استسلام عشرات من قواته لمجموعات الثوار في مدينة الزاوية وغيرها يعطي مؤشراً على ضعف الروح القتالية لدى مقاتليه، بعكس المقاتلين ضمن قوات حكومة الوفاق ومجموعات الثوار. والعامل النفسي المعنوي هنا مهم جداً، وهو الذي صنع الفارق طوال أربع سنوات من القتال ضد قوات حفتر في بنغازي ودرنة.
ومن الناحية السياسية، قد تؤدي هذه العملية إلى تشكيل جبهة سياسية واسعة، تشمل لأول مرة تيارات وقوىً سياسية من مختلف المناطق الليبية، تعلن بوضوح رفضها مشروع حفتر، كما قد تطالب بتغيير المبعوث الأممي الخاص إلى ليبيا، غسان سلامة “الفرانكفوني”، بسبب مواقفه الميالة إلى معسكر الكرامة والمحور الدولي الداعم له. ولو كتب للملتقى الوطني الجامع الانعقاد، فإنه قد يثمر مشروعاً سياسياً ليبياً محضاً، مختلفاً عن المشاريع القائمة، بما فيها اتفاق الصخيرات، ويفرز هذا الملتقى قوىً وشخصيات جديدة مؤثرة لم تكن موجودة، كما يمكن أن يطيح قوىً كلاسيكية، ويجعلها من الماضي.
وفي كل الأحوال، ليس متوقعاً سيطرة قوات خليفة حفتر على طرابلس، بل علينا أن نتوقع أن معركة وادي الدوم 2 قد تؤرَّخ مستقبلاً بأنها المعركة التي أنهت مشروع أسير وادي الدوم (في ليبيا، في أثناء الحرب مع تشاد في مارس/ آذار 1987) خليفة بلقاسم حفتر، سياسياً وعسكرياً في ليبيا.

مقالات ذات صلة