بين الركوع للصنم وانهيار المنظومة الأمريكية

فؤاد البطاينة

الخروج من حالة الانحطاط العربي لا يمكن حدوثه ما لم يحدث تغيير جذري لدى واحد من ثلاثة أقطاب؛ هي الشعب العربي وأنظمته والمنظومة الأمريكية. الأولان ميؤوس منهما والثالث يلوح في الأفق.

لعل من دلالات تهافت المواطنين الأفغان على المطار للرحيل لأمريكا وأوروبا بذريعة الخوف من طالبان، ما يلبسنا لبوساً. فلو فَتحت دول أوروبا وأمريكا أبوابها وأتيحت الفرصة والإمكانية لشعوب الدول العربية بالرحيل إليها لخلت دولنا من سكانها وبقي الحكام بلا شعوب. دول الغرب والصهيونية وكل الطامعين بوطننا العربي يدركون هذا، ولكنهم يدركون خطره الثقافي والسياسي والاقتصادي والأمني عليهم.

هذه من المسلّمات التي ابتلينا بها ضمن المعادلة القائمة التي أُخضع لها المواطن العربي بفكي كماشة؛ ذراعاها الصهيونية وأنظمتنا، في تحالف تآمري على المواطن العربي على خلفية وطن. وكيف لنا مع هذه الحقيقة أن نستمر بإطلاق اسم دولة وحاكم صالح على دولة شعبها أصبح طموحه أن يخرج منها تاركاً ذكرياته وطموحاته ومتخلياً عن طنه لأعدائه ويرحل؟ ونتحدث هنا عن تصور لهجرات جماعية عامة لو أتيح لها أن تحدث لحدثت.

لماذا تصل شعوبنا لهذا الدرك؟ ولماذا تستسلم وتركع لحكام يحكمون باسم القوة الأمريكية الغربية ونيابة عنها، هذا ما تلمسناه في أكثر من مقال؟ والنتيجة أننا نعيش حالة انحطاط عربي لا سابقة تاريخية لها، وأن الخروج من “البلوعة” وتحقيق شروط بدء النهضة العربية لا يمكن تصور حدوثه ما لم يحدث تغيير لواحد من ثلاثة أقطاب؛ هي الشعب العربي والأنظمة والعدو.

وعلى المدى المنظور لا أرى تغييراً ممكناً لدى الأنظمة التي تجنح للتطرف نحو الصهيونية الماسونية وتتنافس على تقديم أنفسها لها، ولا لدى شعوبنا التي تجنح للردة الفكرية والثقافية والتأقلم مع كل حالة ظلم لها أو للوطن، ولا صحوة لها تلوح في الأفق. فالعجلة تتدحرج للهاوية بقوة الدفع بلا موانع ولا كوابح، ولا يُمكن إخلاء شعوبنا من المسؤولية والاستمرار بمجاملتها. فهذا زاد من سلبيتها وتنكرها لحقوقها الانسانية ولوطنها، وإن بقي الأمر هكذا فستصل العجلة لمستقر لها معلوم ومُخطط له. ولكن من مستحقات تلك المرحلة جنوح صانعي الأصنام لسحل أصنامهم وتحطيمها، وستكون الصحوة الشعبية على يد جيل جديد يتسلم الراية ويلعن جيلنا ويُنهي حكومات فيشي.

فالأمل ضمن هذا التصور معقود على حدوث التغيير لدى العدو لصالحنا، سواء كان هذا التغيير سلبياً أم إيجابيا للعدو. فمن هو هذا العدو الذي بانهياره أو إصلاحه ستزول العقبة الرئيسية أمام بدء النهضة العربية؟ فرغم أننا نعتبر “إسرائيل” والاحتلال هو تناقضنا الأساسي لا سيما وأن بقاءه يتناقض مع وجود أي دولة عربية بخير، إلا أن “إسرائيل” لا تمتلك مقومات البقاء لحظة واحدة لولا استمرار إسنادها وإمدادها وحمايتها من قوة غاشمة، وأقصد هنا الولايات المتحدة ومعسكرها الأوروبي بشكل رئيس، لتقاطع مصالحهما الاستراتيجية مع المصلحة الصهيونية.

ولذلك، نعتبر هنا بأن الولايات المتحدة هي الدولة العدوة التي ننتظر انهيارها، أو إصلاحها الذي أقصد به أن يجعل الزمن منها دولة وطنية. تتشكل فيها هوية وطنية أصيله لمواطنيها وكرامة وطنية، بعيداً عن اعتبارهم لها مهجراً وعن مشاعرهم بمواطنهم الأصلية وإرثهم الأوروبي والأفريقي. وهذا إن تم افتراضا (أستبعده)، فستكون الأرض الأمريكية نهاية للتسلط الصهيوني ومشروعه العالمي ونهاية الإحتلال.

نستحضر هنا لغايات الوصول لأهم عقبة تواجه الدول العربية كما سيلي، أننا عندما نتكلم عن الولايات المتحدة فإنما نتكلم عن القطب الواحد الذي يتسيد العالم عسكرياً وسياسياً ويصنع الأحداث، إلا أن أحادية القطبية هذه هي أحادية مكبوحة بقوة الردع المتصاعدة والمتفاوتة في حجمها وتأثيرها. فالردع الروسي والصيني على سبيل المثال هو على مساحة العالم، بينما دول أخرى نووية أو غير نووية فردعها هو لحماية نفسها، وأي دولة خارج هذا الإطار تمكن استباحتها عند الحاجة. والدول العربية هي في هذا الإطار، ولن يحميها من الابتلاع الصهيو-أمريكي ويساعدها على الصمود والنهوض أقل من تحالف استراتيجي مع قوة كبرى.

إلاّ أن الدول العربية محرومة من الحصول على أي تحالف مع دولة كبرى لأسباب موضوعية، فالحلفاء والأضداد والمتنافسون والأعداء لبعضهم من قوى هذا العصر كلهم متفقون على بقاء ودعم الكيان الصهيوني. فروسيا والصين هما دولتان ضامنتان لـ”إسرائيل”، ودعمهما لحماية أو لنهوض أي بلد عربي محدود بسقوف تحقق مصلحة لهما دون الإضرار بالميزان المخسوف بين الدول العربية و”إسرائيل”، ولا يمكن أن تدخلا في صراع استراتيجي مع امريكا والصهيونية لحساب العرب حتى لو تغيرت وجهة نظرهما إزاء “إسرائيل”.

فليس من قوة فاعلة في هذا العالم تفصل ما بين الفلسطينيين وتطلعم لتحرير فلسطين وبين رغبة والتزام الشعب العربي في كل أقطاره بتحرير فلسطين، وليس من عاقل لا يعلم بأن استهداف الدول العربية وإخضاعها من قبل الصهيو-غربي شرط أساسي لحماية وبقاء واستقرار “إسرائيل” واحتلالها. ومن الغباء أو الخيانة أن يعتقد أي نظام عربي بأن اعترافه بـ”إسرائيل” واحتلالها سيُبقي على قُطره بخير، وجاهل من لا يعتقد بأن معاداة العدو أسلم من صداقته.

وعليه، فإن أي نهضة للدول العربية، مرتبطة بتخلي أمريكا بالدرجة الأولى عن دعم وحماية الأطماع الصهيونية في فلسطين، أو بتحرير فلسطين، والتحرير هذا لا يمكن أن يكون بغير حرب التحرير الشعبية (المقاومة) وهو ما لا يلوح بالأفق ضمن المعادلة الدولية والواقعين العربي والفلسطيني. أما عن تخلي أمريكا عن المشروع الصهيوني وعن الأطماع الغربية بالوطن العربي طوعاً أو كرهاً، فهذا باختصار لن يحدث مع بقاء منظومتها وغياب المقاومة، وإن انهيار منظومتها لن يحدث على يد قوة عسكرية خارجية؛ لأن المسألة في هذا يحكمها مبدأ “عليّ وعلى أعدائي”، ويبقى الرهان على انهيارها من الداخل.

يثار هنا تساؤلان: هل من المنطق أن نعلق على انهيار أمريكا من الداخل وننتظر حدوث ذلك؟ وهل انهيار أمريكا من الداخل ممكن؟ بالنسبة للتساؤل الأول فالإجابة تعتمد على نسبة الاحتمالية بين ظهور مقاومة شعبية كمشروع، وبين احتمالية تغيير العدو إيجابياً بدون انهياره. وهذه النسبة تبدو متساوية في ضعفها على المدى المنظور ولا أقول في صفريتها، وعليه فإن انتظارنا لحين انهيار أمريكا من الداخل هو اضطراري مع كرهنا أن يكون خيار الصفر.

أما انهيارها من الداخل فمحتوم بما قامت عليه كدولة، من أسس فاسدة لا تلتقي مع طموحات الشعوب ومُثلها، والمعادلة الداخلية فيها لا يمكن أن تصنع أمة واحدة من مواطنيها ولا دولة وطنية واحدة متماسكة أيديولوجياً أو مبدئياً أو ثقافة ولا أهداف مشتركة، أضف لذلك تراجع الأغلبية البيضاء وتنامي السود وزعزعة الانسجام الفكري والسياسي داخل الحزبين، وبالتالي فأمن الدولة واستقرارها وتماسكها هش. وعندما يضطر النظام الأمريكي لترك انشغاله وإشغاله لمواطنيه بحروب عسكرية خارجية هادفة لافتراس قرارات الشعوب، ستنتعش وتتفعل الاستقطابات وتبدأ مرحلة التفكك.

 

مقالات ذات صلة