معوّقات النهوض العربي بين الخطابات والحوارات

سيف الدين عبد الفتاح

حرير- من المهم تأكيد أن خطابات النهضة لا يقع تصنيفها ضمن مساحات الخطاب السياسي فقط، ولكن الأمر أبعد من ذلك؛ فخطاب النهوض يشمل كل مساحات الخطاب الأخرى؛ من سياسي واجتماعي وثقافي وتنموي وحضاري وعمراني؛ إلا أن الانشغال بالسياسي أو ربما تغوله هو ما جعل الاهتمام بالسياسي على حساب المجالات الأخرى؛ ورؤية الخطاب من خلال مدخل الأزمة وأمراض الخطاب هي بالأساس انعكاس للظاهرة الحوارية وأمراضها والعناصر السلبية فيها؛ والعناصر البنيوية في البيئة الحوارية، وهو أمر أغرى بعضهم بالحديث عن سمات شبه ثابتة عن العقل العربي والعقل المسلم. ومن ثم كان الانتقال من مقاربة الخطاب في تناول الخطاب النهضوي وخرائطه؛ وخطاب الإصلاح وأمراض الخطاب الذي صاحبه واقترن بممارساته، إلى الحوار وبنياته والوقوف على سلبياته وأزماته، ليس أمرًا مفتعلًا في هذا المقام، بل كان من الأمور المعتبرة فيه. ولعل الوقوف على البنية الحوارية والبيئة النفسية الجماعية والاجتماعية والمجتمعية وجملة الأحوال الثقافية والحضارية أثّرت تأثيرًا مباشرًا وغير مباشر على مسارات الحوار، ومن ثم الخطاب وأزمانهما على حد سواء؛ ومن ثم فإن البحث عن حالة التوازن واعتماد المنهجية في عمليات الحوار حول النهوض مسألة أساسية في تفادي مطبّات الحوار المتكرّرة وأزماته.

من ثم كان من المهم أن نتعرّض إلي مقاربتي علم النفس السياسي وعلم النفس الاجتماعي، اللتين تشيران إلى بعض الاعتبارات المنهجية في تحليل تلك الظواهر المختلفة المتعلقة بقضايا النهوض والإصلاح، من دون الانزلاق إلى فائض تعميمات وإغراء التصنيفات. ربما تقدّم هذه المقاربات إطارًا معرفيًا ومنهجيًا لتلك الظواهر المختلفة التي أثرت بالضرورة على تجليات الخطاب عمومًا، وما تعلق بذلك من تأثيرات ومآلات على الخطاب النهضوي والإصلاحي. ومن ثم، من المهم التوقف نقديًا على كتاباتٍ أخرى اهتمّت بمقولاتٍ ظنّها بعضهم أكثر تفسيرية في مقام تحليل ذلك الخطاب النهضوي وتفسيره وتقويمه.

حقّقت القيم الإيجابية المؤاتية للنهوض والمبادئ الحاضنة للتغيير والأصول المرتبطة بالإصلاح والمسالك المقترنة بالفاعلية والتأثير استقرارًا ملحوظًا في المجتمعات التي أخذت بها. أما بقية المجتمعات، ومنها مجتمعاتنا العربية والإسلامية، والتي لم تأخذ بهذه المبادئ لسبب أو لآخر، فقد ظلت تتخبّط وترسف في أغلال الطغيان والاستبداد؛ وتعانى تخلفًا اجتماعيًا وتدهورًا اقتصاديًا (على الرغم من وفرة الموارد)؛ وتعيش في حالة صراع ظاهر أو خفي بين قوى مختلفة لا تجد صيغة للتعايش المتوازن، حتى بات الأمر يهدّد بتشقّقاتٍ وانقساماتٍ مدمّرة ظهرت نتائجها في بلاد كثيرة؛ بحيث تؤشّر على عدم رغبة أبنائها في التعلم عبر التاريخ، والأخذ بمعطيات العلم، ومنها علم النفس السياسي والاجتماعي؛ تلك العلوم الناهضة بالتفكير الراشد والتدبير القويم والتغيير الإيجابي المواكب للنهوض والإصلاح، بينما يمثل التفكير الضيق الهادف إلى تحقيق مصالح شخصية أو فئوية أو طائفية معينة؛ ويعيش الناس طبق قوانين القطيع التي تفترض أحادية الرؤية وأحادية التوجيه وتفترض في الحاكم العصمة والقدرة على أن يسوق الجماهير الغافلة المستسلمة طوعًا أو كرهًا بعصاه الغليظة. وبهذا، نحن في حاجة إلى رؤية إصلاحية ناهضة وشاملة.

وسوف يستدعي هذا مراجعة للتركيبات النفسية الأساسية للسلطة والجماهير والمعارضة، واعترافًا بحتمية الاختلاف بوصفه طبيعة بشرية؛ وقبولا للتعدّدية قانونا يسمح بالتفاعل الآمن بين المختلفين، ومعرفة لأصول الحوار وقيمه؛ ووعيًا بكيفية انتشار الفساد وتنامي نزعات العنف والتطرّف. كل هذه البنى والأحوال استعرضها محمد المهدي في كتابه المهم “علم النفس السياسي … رؤية مصرية عربية” (مكتبة الأنكلو المصرية، القاهرة، 2007). في محاولة لإيقاظ الوعي والترغيب في السعي؛ إذ لا قيمة لوعي بدون سعي؛ خصوصا ما تحدّث به عن سيكولوجية الحوار وأن للحوار مرجعية؛ فكلما كانت هناك مرجعية قوية ومشتركة كان الحوار أكثر إيجابية وتكاملاً، وعلى العكس، كلما ضعفت هذه المرجعية أو تشتتت أو تعارضت تعطّلت مسارات الحوار أو ضاقت، وأصبح الحوار أقرب إلى الضجيج. ولذلك، في فترات التحوّل الاجتماعي، خصوصا المفاجئة أو السريعة، نجد أن الحوار يصبح أكثر صخباً وتشابكاً وتشتتاً، نظراً إلى اختلاف المرجعيات المعرفية للفئات المختلفة اختلافاً شديداً يجعلها لا تملك الحد الأدنى للاتفاق على أي شيء، وتضيع منها كل الثوابت ويصبح كل شيء قابلاً للطعن والتشكيك والتسفيه.

الوعي بمثل هذه المرجعية أمر ذو أهمية كبيرة لإدراك طبيعة الحوار ودوره في عمليات النهوض، خصوصا أن الأمم لا تعيش حياتها برتابة، وإنما هي دائما في حركة وصخب، سواء من داخلها أو لما تتعرّض له من بيئتها الخارجية، ومن ثم من الضروري إدراك أهمية إدارة هذه المرجعية والتعرّف عليها، خصوصا أن عدم الوعي بها يرتب مخاطر عديدة، أبرزها ألوان من الخطاب السلبي، رصدها المهدي، وأهمها:

الحوار العدمي التعجيزي: وفيه لا يرى أحد طرفي الحوار أو كليهما إلا السلبيات والأخطاء والعقبات؛ حيث يسد الطريق أمام كل محاولة للنهوض. حوار المناورة: ينشغل الطرفان (أو أحدهما) بالتفوق اللفظي في المناقشة، بصرف النظر عن الثمرة الحقيقية المرجوّة، وهو نوع من إثبات الذات بشكل سطحي. الحوار المزدوج: وهنا يعطي ظاهر الكلام معنى غير ما يعطيه باطنه، وذلك لكثرة ما يحتوي من التورية والألفاظ المبهمة.. وهو يهدف إلى إرباك الطرف الآخر. الحوار السلطوي: فضلا عن أنه إلغاء لكيان (وحرية) طرف لحساب طرف آخر، فهو يؤثر سلبًا على الطرفين وعلى المجتمع بأكمله. الحوار السطحي: حين يصبح التحاور حول الأمور الجوهرية محظورًا أو محوطًا بالمخاطر، يُلجأ إلى تسطيح الحوار طلبًا للسلامة أو كنوع من الهروب.

حوار الطريق المسدود: يعلن الطرفان (أو أحدهما) منذ البداية التمسّك بثوابت متضادّة تغلق الطريق أمام الحوار، وهو نوع من التعصّب وانحسار مجال الرؤية. الحوار الإلغائي أو التسفيهي: يصرّ أحد طرفيه على ألا يرى شيئا غير رأيه. لا يكتفي بهذا، بل يتنكّر لأي رؤية أخرى ويسفّهها ويلغيها. حوار البرج العاجي: ويقع فيه بعض المثقفين حين تدور مناقشاتهم حول قضايا فلسفية أو شبه فلسفية مقطوعة الصلة بواقع مجتمعاتهم، دون محاولة إيجابية لإصلاح الواقع. الحوار الموافق دائمًا: وفيه يلغي أحد الأطراف حقّه في التحاور لحساب الطرف الآخر استخفافًا، أو خوفًا، أو تبعية حقيقية طلباً للراحة والتواكل على الآخر. الحوار المعاكس دائماً: حين يتّجه أحد طرفي الحوار يمينًا يحاول الطرف الآخر الاتجاه يسارًا والعكس بالعكس، وهو رغبة في إثبات الذات على حساب جوهر الحقيقة.

تعدّ هذه الأمراض الحوارية وتلك السلبيات من أهم معوقات خطاب النهوض والتغيير، فالاختلاف في وجهات النظر وتقدير الأشياء والحكم عليها أمر طبيعي، إذ يستحيل بناء الحياة، وإنشاء شبكة العلاقات الاجتماعية بين الناس ذوي القدرات المتساوية والنمطية المتطابقة. ومن ناحية أخرى، ليست خطورة انتشار أنماط الحوار السلبي فقط في تعطيل النهوض وصرف الهمم عن العمل، ولكن دوره في تراكم نزعات العنف، ومن ثم انفجارها في أي وقت. لذلك يجب الانتباه إلى المشكلات التي تعوق انسياب مسارات الحوار على كل المستويات وتعلم أصوله التي يجب أن تُراعى.

مقالات ذات صلة