الحراك الشَّعبي بالجزائر- ميلاد الجمهورية الثَّانية … صوريا Fleur De Lilas

حقيقة ما يجري بالجزائر

خاص لحرير من الجزائر 

ما زالت بعض الأطراف في الجزائر تحاول أن تفسِّر ما حدث، هذه الصَّدمة الَّتي أصابت الطَّبقة السِّياسية بالذُّهول، سلطةً وأحزاباً معاً، بعضها لا يستطيع أن يصدِّق استفاقة الشَّعب، أو كما سمِّوها ثورة، أو انتفاضة، لم يستوعبوا ما حدث، فتحدَّثوا عن أيادٍ خارجية، وأطراف خفيَّة تحرٍّك هذا التسونامي الشَّبابي الثَّائر بسلمية ووعي اللَّذين لم يسبق لهما مثيل لا في الجزائر ولا في الوطن العربي ككل بل وحتَّى في العالم المتقدِّم والمتحضِّر، وخير دليل ما حدث في فرنسا مؤخَّراً بين أصحاب السُّترات الصَّفراء وقوات الأمن، أين سقط القناع وفَضَحَ المشهد فرنسا الدِّيمقراطية الَّتي طالما نادت بالحرِّيات واستماتت في الدِّفاع عن حقوق الإنسان.

ما يحدث في الجزائر ليس من صنيع أطراف معيَّنة وليس وليد الـ 22 من فبراير، ولكنَّه في الواقع نتيجة فجوة كبيرة بين شعب يتطلَّع إلى الانتقال إلى مجتمع الحداثة الَّذي تكوَّن بفضل الكمِّ الهائل من المعلومات والاحتكاك بالعالم عبر شبكات التَّواصل الاجتماعية، وبين سلطة سياسية متخبطة أثبتت فشلها على كل الأصعدة منذ بداية مرض الرَّئيس عبد العزيز بوتفليقة سنة 2013، وبين أحزاب سياسية انتهازية لم تؤد دورها منذ بداية التَّحول الدِّيمقراطي في الجزائر سنة 1988.

المجتمع الجزائري مجتمع شاب معظم فئاته العمرية من الشَّباب الَّذين يتراوح متوسط العمر لديهم بأقل من 30 سنة، فمعظم أبناء هذا الجيل ولدوا عندما انتخب الرَّئيس الحالي في 1999، والمعروف أنَّه خلال كل جيلين هناك حراك إنساني لا بد للسِّياسة أن تواكبه، إلاَّ أنَّ النِّظام الجزائري يرفض حتمية التَّغيير هذه حتى في الوقت بدل الضَّائع. إنَّ الإخفاق السِّياسي في الجزائر يعود إلى تعنت السُّلطة واستمراريتها بنفس المرجعية السِّياسية ونفس الأيديولوجية منذ الاستقلال، بالرغم من أن الأجيال المتعاقبة، والمعطيات السِّياسية والإقتصادية والاجتماعية تتغير باستمرار منذ عقود، فبين سلطة متعنِّتة وبين أحزاب سياسية موالية لها وأحزاب أخرى معارضة لم يسمع بها الشَّعب سوى في المناسبات الانتخابية، وفي ظلِّ هذا الفراغ الكبير الَّذي دام أكثر من عشريتين أراد النِّظام في الجزائر أن يصنع مجتمعه المدني الخاص به ما حال دون التأسيس لمشروع مجتمعي فاعل وبناء.

كلُّ هذا شكَّل حالة احتقان واسعة في أوساط الشَّعب الجزائري الَّذي بدأ صبره ينفذ خاصَّة في ظلِّ الخرجات الاستفزازية من بعض الشَّخصيات النَّافذة والبارزة في الحزب الحاكم، وبعض الوزراء بتصريحاتهم اللاَّمسؤولة…… إنَّ ما أجَّج الغضب في نفوس المواطنين رغم اختلافاتهم الفكرية والحزبية والأيديولوجية- باستثناء الانتهازيين طبعاً- هو الحكم بالوكالة، ومخاطبة الشَّعب بالرَّسائل، حيث صارت أطراف مجهولة تتكلَّم باسم الرَّئيس، أمَّا القطرة الَّتي أفاضت الكأس هي التَّرشيح بالنِّيابة عن رئيس الجمهورية لإبقائه في الحكم لفترة رئاسية خامسة تدعمها أطراف فاعلة في السُّلطة وصف بالتعسُّفي تجاه إرادة الشعب الَّذي يعي تماماً ما يحدث حوله، فالسُّلطة تريد استمرارية الرَّئيس في الحكم بالرغم من وضعه الصحي المتردِّي، حيث أنَّه لم يخاطب شعبه منذ 2012، رئيسٌ حاز على ثقة ومحبَّة الشَّعب الجزائري لتاريخه النِّضالي المشرِّف وشعبيته الواسعة في الجزائر، ولكلِّ ما قدَّمه للوطن خاصَّة بعد تسلُّمه للسُّلطة في نهاية العشرية السَّوداء سنة 1999، إلاَّ أنَّ هذا الشَّعب أدرك تمام الإدراك أن رئيسه أصبح غير قادر على أداء مسؤولياته ومهامه الدُّستورية بسبب حالته الصِّحية الصَّعبة.

إنَّ إصرار المحيطين بالرَّئيس على ترشيحه لعهدة خامسة يدلُّ على أمرين اثنين إمَّا صراع بين أجنحة السُّلطة وعدم الاتِّفاق على مرشح توافقي، وإمَّا استعماله كغطاء شرعي للفساد ولمصالح خاصَّة بشخصيات سياسية واقتصادية نافذة، وهو الوضع المرجَّح بين أوساط الشَّعب بالنَّظر للمعطيات السِّياسية السَّائدة منذ بداية العُهدة الرَّابعة، هذا الوضع استفزَّ الشَّعب الجزائري الَّذي أدرك تمام الإدراك أنَّ الموافقة على تمرير العهدة الخامسة هو سطو على السُّلطة واختراق صارخ للدُّستور، وعبث بمقدرات الأمة السِّياسية والإقتصادية والأخلاقية، وانتحال لشخصية الرَّئيس.

إنَّ تاريخ الـ 22 فبراير وما تلاه من مواعيد هو تعبير الشَّعب السِّلمي والحضاري عن رأيه الرَّافض للعهدة الخامسة بكلِّ ما تحمله من مآسٍ على الشَّعب الجزائري وعلى الجزائر ..  هو رسالة للسُّلطة بأنه حان وقت التغيير والاستجابة لتطلعات الشَّباب، وهو نهاية للفساد السِّياسي والتعدِّي على الحريات ..  هو دعوة لترك الرَّئيس يرتاح، و هو نهاية للدَّولة الإيديولوجية، ونهاية لزمن الحكم بالشَّرعية الثَّورية والشَّرعية الحزبية، وإيذان بميلاد الجمهورية الثَّانية المبنية على أسس الدَّولة المدنية، الَّتي تكون فيها المواطنة هي هوية الفرد الجزائري وليس انتماؤه الإثني أو الجهوي أو الدِّيني.

إنَّ مسيرات الشَّعب المتتالية ليست ربيعاً عربياً أو عبرياً كما أصبح يسمى في كثير من الدُّول العربية، الجزائر استفادت من تجاربها القاسية الَّتي عززت مناعتها ضدَّ كلِّ ما يمكنه أن يهدِّد استقرارها وأمنها بالرَّغم من المحاولات الَّتي تريد إجهاض مسيراتها السِّلمية إلاَّ أن تطلعات شبابها أقوى من كلِّ تهديد.

وما يلفت الانتباه في هذا الحراك هو أمرين اثنين:

ـ تأكيد هذا الشَّعب على علاقته الثَّابتة والقوِّية بمصالح الأمن من عناصر الشُّرطة وأفراد الجيش الوطني الشَّعبي سليل جيش التحرير، وهو ما أظهره من خلال الشِّعارات التي ردَّدها الشَّباب خلال المسيرات، بالإضافة إلى الحرفية والمهنية العالية الَّتي تحلت بها مصالح الأمن في تعاملهم معه، وهذا مكسب يحظى بالتَّقدير والاحترام يجب الحفاظ عليه .

ـ  تصالح هذا الشَّعب مع السِّياسة بعد قطيعة دامت سنوات، والتفافه حول مطلب واحد وهو رفضه المطلق للعهدة الخامسة.

ما يمكن قوله أنَّ هذا الحراك أفرز مخاضاً كبيراً وضع السُّلطة في مأزق كبير وأخلط أوراق الأحزاب الَّتي أرادت ركوب موجة المظاهرات السِّلمية، وغيَّر من المشهد السِّياسي الَّذي شهد انسحابات عديدة للمترشحين، الأحداث تتسارع بقوة والحزب الحاكم يشهد استقالات لكوادره ومناضليه، بالإضافة إلى التكتم الشَّديد حول وضع الرَّئيس الصِّحي، ما يفتح السَّاحة الجزائرية على الكثير من التَّوقعات قبيل إعلان المجلس الدُّستوري عن الملفات المقبولة للمترشحين في الـ 13 من هذا الشَّهر، فيما تحرص قيادة الجيش على أمن وسلامة البلاد وحمايتها من أي تهديد لأمنها.

ومع استمرار الحراك الشعبي السِّلمي يبقى الشَّيء الَّذي لا يختلف عليه الجزائريون شعباً وجيشاً هو عدم قبول أي تدخل أجنبي في الشؤون الدَّاخلية للبلاد، فعندما يتعلق الأمر بالجزائر ،  يقف الجزائريون كلهم  وقفة رجل واحد منذ الأزل، لا تفرق بين العربي فيهم أو الأمازيغي أو الشاوي، ولا بين يميني ويساري ولا بين إسلامي أو علماني، ففي النِّهاية هم تجمعهم كلهم قضية واحدة تسمَّى الجزائر يختلفون فيها ولا يختلفون عليها.

مقالات ذات صلة