سؤال تحرّر المرأة المُتَجَدِّد

كمال عبد اللطيف

حرير- يمتلك موضوع علاقة الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل حساسيات معقّدة ومركّبة، ولأنه موضوع صراع قديم داخل المجتمعات البشرية، فقد استعملت آلياته في الصراع كثيراً من أصناف الأسلحة والأقنعة التي تم ويتم فيها توظيف مختلف صور الذكاء الإنساني (ذكاء الرجال وذكاء النساء)، بهدف تكريس مواقف ومواقع محدّدة في التراتب الجنسي والاجتماعي. كما تم ولا يزال يتم فيها كثير من صور التواطؤ والتناور، وتبادل المواقع الرمزية، رغم مظاهر سيادة مواقع بعينها، حيث تتيح المناورات المستعملة في الحروب المعلنة وغير المعلنة بين الطرفين في التاريخ كثيراً من وسائل التمويه والمراوغة. ولأن استئثار الرجال بالهيمنة الفعلية والهيمنة المصطنعة والمتخيلة عَمَّر طويلاً، وصنع علامات راسخة كثيرة، فقد نتج عن ذلك كثير من صور الحيف والإقصاء، وكثير من مظاهر العنف والعنف الرمزي الظاهر والمبطن.

لم يعُد أحدٌ يجادل اليوم في الدور الذي لعبته عوامل تاريخيةٌ قوية، من قبيل الثورة العلمية وميلاد المجتمع الصناعي، وتطوّر نمط الإنتاج الرأسمالي في تغيّر كثير من ظواهر المجتمع البشري، ومنها العلاقة بين المرأة والرجل، فقد ركّبت العوامل المشار هنا إلى بعضها معطياتٍ جديدة سمحت بإمكانية تصوّر أنماط للعلاقة بين الجنسين أكثر تكافؤاً وأكثر عدالة، تصوّر يعي نسبية المنتوج الاجتماعي، ونسبية القيم التي تواكبه، وتمنحه الصور التي يتمظهر بها، والقيم الثقافية والأخلاقية التي يلحم بها فجوات البنيان الاجتماعي، ما يُسعفه ببناء توازنه والمحافظة على تماسكه واستمراره.

نستعيد في اليوم العالمي للمرأة سؤال تحرّرها، لِنتحدّث عن الحركيةِ المتدرّجةِ والبطيئةِ لعملية التّحرّر، وخصوصا في باب القوانين المنظّمة للأسرة، والقوانين التي تتيح للنساء المشاركة في الحياة السياسية. وإذا كان من المؤكّد أن العالم أجمع استأنس بأن النساء قادمات … إلا أن هذه الحركية لا تعادل درجة الضغط المتواصل ضد النساء في كثير من أبواب الحياة داخل المجتمع. صحيحٌ أننا نجد في مختلف المجتمعات الإنسانية اليوم طلائع من الفاعلين في حقل العملين، الجمعوي المدني والسياسي، الهادفين إلى تمكين النساء من الوسائل التي تساعدهن على التقليص من حدّة الأوضاع التي تتخبّط فيها شرائح هائلة منهن. ومع ذلك، نتصوَّر أن ما تَحقَّق من منجزاتٍ في هذا الباب لا يُكافئ حدّة الضغوط والإكراهات التي لا تزال تمارسُ عملياتِ خنقٍ متواصلة لكل التحرّكات الهادفة إلى منحهن إمكانية تطوير مجال مشاركتهن، في فضاءات الشأن العام ومجالات الإبداع والإنتاج.

ولأننا ننظر إلى موضوع تحرّر المرأة من الزاوية الثقافية، فإنه يمكننا أن نتحدّث عن الدور الذي لعبته العلوم الاجتماعية في عمليات إغناء التصوّرات والمواقف التي تتصارع في مجال النظر المرتبط بقضايا المجتمع والمرأة. الأمر الذي ساهم في محاصرة الحضور الذي كان يتمتّع به السجل المعرفي التقليدي المهيمن على التصوّرات والمواقف في هذا المجال. وقد لوحظ في المجتمعات العربية استمرار حضور كثير من العادات البالية في توجيه الرأي العام، في موضوع النهوض بواقع المرأة العربية، على الرغم من نوعية الجهد الذي بذله مفكّرو النهضة العربية، ويبذله اليوم الإعلام وفضاءات التواصل الاجتماعي، من أجل التعريف بكل ما يسهّل المواءمة بين الموروث التقليدي ومكاسبِ التحوّل والتغيير.

إذا كان المشهد السياسي في كثير من المجتمعات العربية يبرز بعض صور الحضور التي أصبحت للنساء داخل مؤسّسات العمل السياسي ومنظمات المجتمع المدني، فإن كل ما حققته المرأة العربية في العقود الأخيرة من مكاسب لا يعفينا من مواصلة التفكير في أسئلة التحرّر والتحرير والمساواة، لعلنا نتمكّن من وقف العودات الرامية إلى توظيف التقاليد من أجل حجب النساء مرّة أخرى عن المجتمع، وعزلهن داخل البيوت.. والإشارة هنا إلى أدبيات الإسلام السياسي الجديدة، وشبكات الإفتاء التي تعولمت، ومنحت الخطاب المحافِظ والفكر التقليدي مَواقعَ وفضاءاتٍ مناهضة لكل خطابات التحرير والتنمية، وإدماج النساء في الاقتصاد السياسي والإنتاج والإبداع. بل إن عودة الحجاب، وتحوّله إلى علامةٍ بارزة في مدنٍ وأحياء كثيرة، مثلما هي علامة بارزة في جامعات ومدارس كثيرة وداخل بعض البرلمانات العربية، تقدّم مؤشّراً يدعونا إلى التفكير في تقليص درجة الحماس الذي يمكن أن يبديه الباحث، وهو يتّجه إلى فهم التطوّر الذي بلغته أسئلة تحرّر المرأة في واقعنا، في علاقته بصور التراجع التي تكشف عنها بوضوح قنوات الإفتاء والنصح الديني التي تواصل استعمال لغةٍ في المفاضلة بين الجنسين، من دون التفاتٍ إلى متغيرات الواقع.

لقد عاد كثير من فصائل الإسلام السياسي وفي أغلب الساحات العربية إلى لغة الحجاب، لغة “الداخل والخارج”، لغة “الغزو” و”الاختراق”، مُحاولةً تطويق أفعال التشبيك التي حصلت في فضاء مؤسّسات المجتمع المدني النسائية العربية، المتصلة، بصورة أو بأخرى، ببرامج المنتظم الدولي، في موضوع النهوض بالمرأة وتعزيز مسيرة التنمية الإنسانية، بحكم أنها الأسّ المساعد في عملية تخطّي عوائق النهضة والتقدّم في عالمنا. وما يدعو إلى العجب في هذه العودة هو برنامجها المضادّ في التشبيك، الذي يعتمد شفرةً مُحدّدة في عملية التنسيق بين المنظمات ذات الهدف المشترك، حيث نصبح أمام فعلٍ لا يرى أي مانعٍ بدوره من التوظيف البراغماتي لآليات الخارج، خدمة لأهدافٍ تروم مواجهة ما يُعتقد أنه “جاهلية الأزمنة المعاصرة ومادّيتها”.

نعتُ الحركات النسائية العربية بالحركات المتعولمة لا يستوعب المنحى الإيجابي والتاريخي لها، ولا ينتبه إلى الطابع النقدي والروح الكونية التاوية وراء خطاباتها ومشاريعها في العمل. لهذا السبب، يصبح الصراع مضاعفاً، بحكم أنه يستند إلى سِجليَّن معرفيين متناقضين: سِجلٌّ مسجونٌ في لغة الماضي المُنَمَّط بصورة لا تاريخية، وسجلّ المستقبل المفتوح على إعادة بناء الذات في ضوء مكاسب الأزمنة المعاصرة .. وبين السجلّين مسافةٌ نظريةٌ وتاريخيةٌ لا يمكن أن تتقلص أو تختفي إلا بالعمل المتواصل، من أجل مجتمعاتٍ أكثر تكافؤاً وأكثر عدلاً، وهو أمرٌ يندرج ضمن أفقٍ في الإصلاح تُعدُّ المسألة النسائية فيه من المحاور المركزية، بحكم الموقع الذي تحتله داخل المجتمع، وبناءً على الحساسيات السياسية التي وَلَّدها وسَيولِّدها في التاريخ.

 

 

مقالات ذات صلة