الإعجاز العلمي في ميتة الجراد

قد يخطر على البال هذا السؤال: لماذا انفرد الجراد من دون سائر المخلوقات بالأكل دون تذكية؟ ولماذا جاز أكلها وهي ميتة؟ وهل هناك سر وراء ذلك في جعلها حلالاً لآكلها؟ ولكن قبل ذلك لماذا حرم الله علينا أكل الميتة؟ ولماذا أمرنا بتذكية الحيوان أو الطير قبل أكله مع حله لنا؟ حتى يكون للجراد هذه الميزة وذلك الاستثناء عن غيره؟ عن هذه التساؤلات وغيرها سنتحدث في هذا البحث، ولعل من المناسب أن أتطرق إلى موضوعين أجدهما ضروريين كتوطئة لفهم الحكمة وإدارك الإعجاز في هذا الموضوع، كما وقيل إذا عرف السبب بطل العجب، وهما: الحكمة من تحريم أكل الميتة والحكمة من التذكية.

الجراد في اللغة:

هو بفتح الجيم وتخفيف الراء معروف، والواحدة جرادة، والذكر والأنثى سواء كالحمامة، ويقال: إنه مشتق من الجَرد لأنه لا ينزل على شيء إلا جرّده(1).

ويقال: جرّده من ثوبه عرّاه، وجرد الجلد: نزع عنه الشعر، وجرد الجراد الأرض: أكل ما عليه من النبات وأتى ما عليه فلم يبق منه شيئا، وجرد القحط الأرض أذهب نباتها، والسيف من غمده سله، والقطن حلجه، وجرد القوم: سألهم فمنعوه أو أعطوه كارهين، وجرد ما في المخزن أو الحانوت: أحصى ما فيه من البضائع(2).

وفرس أجرد: منحسر الشعر، وثوب جرد: خلق، وذلك لزوال وبره وقوته، وتجرد عن الثوب وجردته عنه، وامرأة حسنة المتجرد، وروي: (جردوا القرآن) (هذا من كلام ابن مسعود رضي الله عنه قال: “جردوا القرآن ليربو فيه صغيركم ولا ينأى عنه كبيركم فإن الشيطان يخرج من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة” (3)، أي: لا تلبسوه شيئاً آخر ينافيه، وانجرد بنا السير (أي: امتد)(4).

الجراد في الشريعة الإسلامية:

ورد ذكر الجراد في القرآن في موضعين، الموضع الأول كان ذكره كجندي من جنود الله أرسله الله على العصاة من عباده عقاباً لهم فقال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ﴾ [الأعراف: 133].

فهو إذن عقاب وابتلاء يسلطه الله سبحانه على من يشاء بأمره، وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: “وهو جند من جنود الله ضعيف الخلقة عجيب التركيب فيه خلق سبع حيوانات فإذا رأيت عساكره قد أقبلت أبصرت جنداً لا مرد له ولا يحصى منه عدد ولا عدة فلو جمع الملك خيله ورجله ودوابه وسلاحه ليصده عن بلاده لما أمكنه ذلك فانظر كيف ينساب على الأرض كالسيل فيغشى السهل والجبل والبدو والحضر حتى يستر نور الشمس بكثرته ويسد وجه السماء بأجنحته ويبلغ من الجو إلى حيث لا يبلغ طائر أكبر جناحين منه، فسل المعطل من الذي بعث هذا الجند الضعيف الذي لا يستطيع أن يرد عن نفسه حيواناً رام أخذه بلية على العسكر أهل القوة والكثرة والعدد والحيلة فلا يقدرون بأجمعهم على دفعه بل ينظرون إليه يستبد بأقواتهم دونهم ويمزقها كل ممزق ويذر الأرض قفراً منها وهم لا يستطيعون أن يردوه ولا يحولوا بينه وبينها وهذا من حكمته سبحانه أن يسلط الضعيف من خلقه الذي لا مؤنة له على القوى فينتقم به منه وينزل به ما كان يحذره منه حتى لا يستطيع لذلك رداً ولا صرفا”(5).

وفي الموضع الثاني جاء ذكره في سياق وصف يوم الحشر وحال الناس حين يخرجون من قبورهم وهم في فزع عظيم وأمر مريج كأنهم الجراد المنتشر بكل اتجاه، فقال عز من قائل: ﴿خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ﴾ [القمر: 7]، أي كأنهم في انتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعي جراد منتشر في الآفاق(6)، منتشر في كثرتهم وتفرقهم في كل جهة والجراد مثل في الكثرة والتموج، ويقال في الجيش الكثير المائج بعضه في بعض جاءوا كالجراد(7).

وأما في السنة فقد ورد عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: الْجَرَادُ وَالْحِيتَانُ وَالْكَبْدُ وَالطِّحَالُ»(8).

أما في السنة التقريرية فقد أباح الله الجراد بتقرير من رسوله لأن سنته إما قول أو فعل أو تقرير (والتقرير يعني تغاضي الرسول صلى الله عليه وسلم عن فعل الصحابة أو السكوت على فعل أو قول صادر منهم)، فعن أبي يعفور قال سمعت ابن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أو ستاً كنا نأكل معه الجراد(9).

الجراد من الناحية الفسيولوجية:

مما قيل عن الجراد أن خلقته أو صورته تجمع بين عدد من المخلوقات، ففيها عشرة من الحيوانات ذكر بعضها ابن الشهرزوري في قوله: لها فخذا بكر، وساقا نعامة، وقادمتا نسر، وجؤجؤ ضيغم، حَبَتْها أفاعي الرمل بطناً، وأنعمت عليها جياد الخيل بالرأس والفم. قيل: وفاته -أي ابن الشهرزوري- عين الفيل، وعنق الثور، وقرن الأيل، وذنب الحية، وهو صنفان طيار ووثاب ويبيض في الصخر فَيَتْرُكهُ حَتَّى يَيْبَس وَيَنْتَشِر فَلَا يَمُرّ بِزَرْعٍ إِلَّا اِجْتَاحَهُ(10).

يتكون جسم الجرادة من رأس وصدر وبطن، أما الرأس فيغلفها جلُيد سميك متصلب يسمى علبة الرأس (Head capsule)، وتوجد بها العيون المركبة والعيون البسيطة وقرنا الاستشعار (الزباني) وأجزاء الفم القاضمة.

وتتكون علبة الرأس من مساحات تفصلها عن بعضها البعض حزوز أو دروز (Sutures)، وهي الجبة والدرقة والجداريّات والوجنة، وأما الصدر فيتصل بالرأس عن طريق العنق، ويتكون من ثلاث عقل أو شدف، تحمل كل منها زوجاً من الأرجل المجهرية للمشي والوثب العال، أما الشدفة الصدرية الثانية والشدفة الصدرية الثالثة فيحمل كل منها زوجاً من الأجنحة الغشائية الواسعة المساحة، وهي التي تتصل بالصدر عن طريق دواعم، ويتحرك الجناحان بعضلات قوية ترفرف بقوة تمكن الجراد من الطيران لمسافات طويلة تقطع خلالها مسافات شاسعة.

أما دورة حياة الجراد فإنه يتكاثر في أجيال متعاقبة، وفي العادة يبدأ الجيل بوضع البيض وينتهي بقيام الإناث البوالغ بوضع البيض لإنتاج جيل جديد لاحق، ومن المعروف في الجراد أن البيض الموضوع يفقس لتخرج منه حوريات (NymphS)، وهي التي سماها الجاحظ والدميري وغيرها ” دبا ” أو “دبى” وهذه تضطر للقيام بعمليات انسلاخ (Moulting) حتى تتمكن من النمو والازدياد في الحجم، والوصول إلى الشكل اليافع في حياتها، وهذه العملية العامة التي تسمى “التحول”(11) (Metamorphosis).

وتكمن خطورة الجراد الصحراوي في قدرته على الترحل والقيام برحلات الهجرة والطيران التي تقطع فيها مسافات شاسعة، وكذلك اقتداره التكاثري (Reproductive potential) في أجواء مختلفة حيث ينتشر في مناطق تضم أربعاً وستين دولة هي معظم دول إفريقيا حول خط الاستواء، وفي آسيا تشمل الدول شبه الجزيرة العربية وفلسطين ولبنان وسوريا وتركيا والعراق وإيران وأفغانستان وباكستان والهند وحدود ما كان يسمى “الأتحاد السوفيتي” المتاخمة لأفغانستان وإيران وتركيـا(12).

طيران الجراد:

يستطيع الجراد أن يطير لمسافات بعيدة، فتقطع الجرادة الواحدة مائة كيلومتر في اليوم الواحد، وذلك بما لديها من قدرة عضلية تمكنها من الرفرفة بالجناحين لمدة تتراوح ما بين ست وست عشرة ساعة، وهي قدرة تساعدها على اجتياز الموانع المائية والطبوغرافية.

وبدراسة قدرة عضلات الطيران في الجراد، وجد أنها تعمل بكفاءة تفوق كفاءة عضلات الحركة في الإنسان بنحو ثماني مرات (إذا أخذنا في الاعتبار الفرق في الحجم) فإذا علمنا هذه القدرة الهائلة على الطيران لساعات طويلة أثناء النهار، فمن أين لهذه العضلات أن تأتي بالطاقة المطلوبة لهذا النشاط؟

تأتيها هذه الطاقة من عمليات أيض (Metabolism) المواد النشوية داخل خلايا الجسم، فإذا نفد ما لديها من مخزون النشا تبدأ في استنزاف احتياجاتها من مخزون الدهن الموجود بها، فهو الذي يمدها بالطاقة اللازمة لقطع مسافات طويلة في الطيران(13).

كيف يحصل الجراد على حاجته من الماء أثناء رحلة الهجرة؟

وربما أيضاً قد يخطر بالبال هذا التساؤل وهو كيف تأخذ الجرادة كفايتها من الماء وهي تطير كل هذه المسافات الشاسعة؟ ومعلوم أن كل مخلوق ذو نفس رطبة يحتاج إلى الماء؟ والجواب يأتينا من أهل الاختصاص بهذا المجال، حيث يقول الدكتور كارم السيد غنيم: يمكن للجراد المهاجر أن يقطع مسافة تبلغ آلاف الكيومترات خلال ثلاث أسابيع وفي عام 1956م لوحظ أن الجراد الحاج هو الأكثر قدرة على التحليق من أي نوع آخر، ولمسافات بعيدة، فلقد تمكن من عبور البحر لمسافة 500كيلو متر للوصول إلى جزيرة Cap vert وطالما تم التساؤل حول الكيفية التي يستطيع بها الجراد قطع مسافة شاسعة من الصحراء دون ماء، والحقيقة أنه من خلال الدراسات تم التوصل إلى أن الجراد يقوم بهضم السليولوز (Cellulose) الذي يعثر عليه في الأدغال اليابسة ويحلله إلى مادة دهنية تحتوي الهيدروجين، وعندما تدخل تلك الدهنيات في الدم، وتحصل عملية الاحتراق بواسطة الأوكسجين خلال الطيران، يتحرر ماء بمعدل (7) ملليجرامات من كل (10) مليجرامات دهون. وهذا يسمى فسيولوجيا “الماء الأيضي” وهذه عملية تدل على المرونة الفسيولوجية لهذا النوع من الجراد، فقد واجه اختفاء الماء في الصحراء بإنتاج ما يحتاج إليه بطريقة كيميائية(14).

الحكمة من تحريم أكل الميتة:

اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به، قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ﴾ [المائدة: 3].

وقال في موضع آخر: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًاً﴾ [الأنعام: 145].

فحرم المسفوح من الدم، لأنه يحمل سموماً وفضلات كثيرة ومركبات ضارة، وذلك لأن إحدى وظائفه الهامة هي نقل نواتج استقلاب الغذاء في الخلايا من فضلات وسموم ليطرحه خارج الجسم عبر منافذها التي هيأها الله لهذا الغرض، وأهم هذه المواد هي: البولة وحمض البول والكرياتنين وغاز الفحم كما يحمل الدم بعض السموم التي ينقلها من الأمعاء إلى الكبد ليصار إلى تعديلها(15).

ويقول الدكتور جون هونوفر لارسن(16): “الميتة مستودع للجراثيم، ومستودع للأمراض الفتاكة، والقوانين في أوربا تحرم أكل الميتة.كما يقول: إن قوانيننا الآن تحرم أكل لحم الحيوان إذا مات مختنقاً. حيث اكتشفنا مؤخراً أن هناك علاقة بين الأمراض التي يحملها الحيوان الذي يموت مختنقاً وبين صحة الإنسان. حيث يعمل جدار الأمعاء الغليظة للحيوان كحاجز يمنع انتقال الجراثيم من الأمعاء الغليظة -حيث توجد الفضلات- إلى جسم الحيوان والى دمه طالما كان الحيوان على قيد الحياة. ومعلوم أن الأمعاء الغليظة مستودع كبير للجراثيم الضارة بالإنسان، والجدار الداخلي لهذه الأمعاء يحول دون انتقال هذه الجراثيم إلى جسم الحيوان، كما أن في دماء الحيوان جداراً أخر يحول دون انتقال الجراثيم من دم الحيوان، فإذا حدث للحيوان خنق فانه يموت موتاً بطيئاً، وتكمن الخطورة في هذا الموت البطيء عندما تفقد مقاومة الجدار المغلف للأمعاء الغليظة تدريجياً مما يجعل الجراثيم الضارة تخترق جدار الأمعاء إلى الدماء والى اللحم المجاور.

ومن الدماء تنتقل هذه الجراثيم مع الدورة الدموية إلى جميع أجزاء الجسم لأن الحيوان لم يمت بعد وبالتالي ما زالت دورته الدموية تعمل، كما تخرج من جدار الدماء إلى اللحم بسبب نقص المقاومة في جدر هذه الأوعية الدموية فيصبح الحيوان مستودعاً ضخماً لهذه الجراثيم الضارة.

ثم تفتك هذه الجراثيم المتكاثرة بصحة الحيوان حتى الموت، وموته في هذه الحالة يعني وجود خطر كبير في جسد هذا الكائن الذي يموت مختنقاً(17).

وبهذا نستنتج أن الحكمة من التحريم هي مصلحة الإنسان أولاً وآخراً حفاظاً على صحته من آفة خالها نفعا له وطعاماً ولكنه جهل كل تلك المضار.

الحكمة من التذكية الشرعية:

ونحن بصدد بيان الحكمة من إباحة أكل ميتة الجراد لا بد أن نبين الحكمة من تذكية الحيوان أو ما أباحه الله من الحيوانات التي لها نفس وروح، وكما بينا في المقدمة أن هذا مما لا بد منه للوصول إلى النتيجة المرادة من هذا البحث، فقد علمنا أن الأمر بالتذكية أمر شرعي للمسلمين ولكن ما هي الحكمة المتوخاة من هذا الأمر ونحن نعلم أن كل ما جاءنا من أوامر ونواهي إنما هو إما لدرء مفسدة أو جلب مصلحة؟ وهذا ما تواتر عند الأصوليين من علماء الإسلام.

الذي يحدث في عملية الذبح بطريقة المسلمين أن يبدأ الجهاز العصبي بإرسال إشارات من المخ إلى القلب طالباً منه إمداده بالدماء لأنها لم تصل إليه، وكأنه ينادي: لقد انقطعت عني الدماء.. أرسل إلينا دماً أيها القلب، يا عضلات.. أمدي القلب بالدماء، أيها الجسم.. أخْرِج الدماء فإن المخ في خطر، عندها تقوم العضلات بالضغط فوراً، ويحدث تحرك شديد للأحشاء والعضلات الداخلية والخارجية، فتضغط بشدة وتقذف كل ما فيها من دماء وتضخها إلى القلب، ثم يقوم القلب بدوره بالإسراع في دقاته بعد أن يمتلئ بالدماء تماماً، فيقوم بإرسالها مباشرة إلى المخ، ولكنها ـ بطبيعة الحال ـ تخرج للخارج ولا تصل إليه، فتجد الحيوان يتلوى، وإذا به يضخ الدماء باستمرار حتى يتخلص جسم هذا الحيوان تماماً من الدماء، و بذلك يتخلص جسم هذا الحيوان من أكبر بيئة خصبة لنمو الجراثيم.

ومما تقدم تعلم أخي القارئ أن الذبح (التذكية) مؤداها التخلص من الدم الذي هو البيئة المناسبة لنمو ونقل الجراثيم، فلولم يكن الدم موجودا لما أمرنا بالتذكية لأنها الطريقة المثلى للتخلص من الدم، وبدونها يكون الحيوان الذي نريد أكله سبباً لكثير من الأمراض التي تصيب آكله، وما الأمراض التي تصيب أولئك الذين يأكلون الحيوانات الميتة أو التي لم تذكى إلا خير دليل على صحة ما توصل إليه العلم في الآونة الأخيرة.

الحكمة من إباحة أكل الجراد:

لا يخفى أن المسلم لا يبحث عن الحكمة فيما أمره الله تعالى وشرعه له؛ لأن المسلم يعي أن خالقه هو مالكه وله الأمر والحكم وله المثل الأعلى والحكمة البالغة، فلا داعي لأن يشغل نفسه فيما كان زائداً عن الحاجة، غير إنه لما كان المجال الذي أكتب فيه هو الإعجاز العلمي، وهذا المجال يتطلب من المسلم أن يجمع بين النص الشرعي والحقيقة العلمية كان من المهم أن أعرج على الحكمة من التشريع ليتضح مدى أهمية الإعجاز العلمي في ثبوت النص وصحته، فيزول بذلك الشك لمن عنده شك أو تقوم به الحجة على الملاحدة والمعاندين.

والسؤال الآن هو إذا كان الدم هو سبب الأمر بالتذكية وهو سبب النهي عن أكل الميتة التي ماتت وفيها الدم المنهي عن أكله، السؤال هو هل أن الجراد ليس فيه دم ولذلك حل أكله؟ أم هو أمر تعبدي أمرنا به دون أن تعرف أسبابه والحكمة منه؟ كما أمر الله تعالى بني إسرائيل على لسان نبيهم أن لا يشربوا من النهر الذي ابتلاهم به اختبارا لهم وابتلاءا، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 249]، ولعل العلم اليوم وبعد مرور أربعة عشر قرناً من الزمان يوضح لنا السر في ذلك.

ومما يستأنس به قول ابن القيم حيث يقول: “الميتة إنما حرمت لاحتقان الرطوبات والفضلات والدم الخبيث فيها، والذكاة لما كانت تزيل ذلك الدم والفضلات كانت سبب الحل وإلا فالموت لا يقتضي التحريم فإنه حاصل بالذكاة (الذبح الشرعي)كما يحصل بغيرها، وإذا لم يكن في الحيوان دم وفضلات تزيلها الذكاة لم يحرم بالموت ولم يشترط لحله ذكاة كالجراد ولهذا لا ينجس بالموت”(18)، فالحكمة إذن نجاسة الميت الغير مذكى، وهذا ما ثبت علمياً، فالأصل أن الميتة حرام لأنها مجمع للدم المسئول عن جذب الميكروبات فلم تمت الميتة إلا لأن العدد البكتيري فيها وصل حداً لا ينفع العلاج بعده لا للحيوان ولا لآكله.

كما يقول علماء اليوم: إن الدورة الدموية البسيطة التي يتكون منها الجراد وهي عبارة عن أنبوب رقيق أو تجويف دموي haemocoel يبدأ من المخ وينتهي بالمؤخرة، يغلظ في أجزاء ظهرية تسمى جيوب sinuses تمثل القلب الغير متطور وتعتبر هذه الجيوب مخازن مؤقتة للدم ويوجد لهذه الجيوب فتحات تمرر الدم عبر الأنسجة ويوجد عند بداية الجناحين تجويفين يمثلان أعضاء دموية نابضة مساعدة تقوم مقام القلب المتطور في دفع الدم في الجناحين ويتميز الجهاز الدموي في الجراد وبقية الحشرات بأنه نظام مفتوح وليس مغلق وذلك يعني عدم احتفاظ الحشرة بالدم داخل الأوعية الدموية، والدم القليل الموجود في الجراد غير مسئول عن تبادل الأكسجين ويقتصر فقط على تبادل الغذاء بين أنسجة الجسم والجهاز الدوراني(19). والشكل المجاور يبين الدورة الدموية البسيطة للجراد.

وربما يطرح سؤال نفسه هو إذا كان الدم هو سبب التحريم فلماذا لا تؤكل بقية الحشرات أو لماذا لم تذكر في مواطن الإباحة أسوة بالجراد؟

ولعل الجواب على هذا السؤال من وجوه:

1. القرآن والسنة ليسا كتاب أكل وشرب ليذكر الله فيه كل ما حل أو حرم إنما هما منهج أمة ودستور منزّل، أنزله الله لهذا المخلوق المكرم ومنهما تستنبط الأحكام بحسب الوقائع بالقياس والجمع بين الأدلة وغير ذلك مما هو من اختصاص علماء الأمة الذين أمرنا الله بطاعتهم وسؤالهم عن أمر ديننا، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء: 59].

2. هناك الكثير من الحيوانات التي هي على شاكلة الحيوانات المباحة ولكنها محرمة منها ما عرف سبب تحريمه كالخنزير، ومنها ما لم يعرف منه إلا الأمر بالتحريم.

3. ومن الحشرات كذلك منها ما عرف سبب تحريمه ومنها ما لم يعرف ولكن منها ما يقاس على المحرم منها لتشابه العلة.

4. ومن تلك الحشرات ما تعافها النفوس وذلك بسبب مواطن معيشتها كالتي تعيش في الأوساخ والقاذورات وفي أماكن النجاسات، ألا ترى أن الجلالة منع الشرع من أكلها -رغم أنها مباحة في الأصل- إلا بعد تطهيرها مما أكلت باحتجازها في مكان طاهر مدة من الزمن.

5. ولما كان الجراد يسبب كارثة بيئية خطيرة في الأماكن التي يجتاحها بحكم أنه مخلوق يتكاثر بشكل سريع جداً، ويسبب هلاك للمحاصيل التي يقع عليها؛ كان من حكمة الخالق سبحانه أن أباح أكلها لخلوها من مسببات المرض أولاً ولأنها تمثل عوضاً عما أصاب الناس من كارثة بسببها ثانياً، وبهذا تكون أشبه بالبديل الغذائي الأمثل لما يحتويه الجراد من مادة غذائية طبيعية.

6. وإذا نظرنا إلى ما تكلفه عمليات اجتثاث الجراد والقضاء عليه من إمكانيات هائلة وأموال طائلة ومواد سمية وكيميائية ضارة على الأرض والبيئة والمخلوقات على حد سواء، ولعل المنظمات والمؤسسات والهيئات الدولية المعنية بالأمور الزراعية تعلم الميزانيات الضخمة التي تعدها لمكافحة الجراد المنتشر ما نجهله نحن، فهل استطاعت هذه الجهات أن تحد من خطر الجراد إذا ما سلطه الله على مكان من الأماكن؟ ستجد أنه في حكمة إباحة أكلها مصلحة لا تكاد تخفى على أي عاقل يريد الخير لمن على الأرض جميعاً.

وجه الإعجاز:

تبين بجلاء لا خفاء فيه الحكمة من إباحة أكل ميتة الجراد من الناحية الشرعية وكيف أن إباحتها مبني على أساس خلائها من الدم المسفوح الذي تحتويه باقي الحيوانات، الأمر الذي يتطلب تذكيتها وتخليصها من الدم، ومن ناحية أخرى فإنها من الحشرات التي لا تأكل القاذورات أو النجاسات لأنها تعيش في البراري فيكون أكلها مغايراً لباقي الحشرات، ومن ناحية أخرى تجلت الحكمة من إباحتها في كونها بديلاً هيأها الخالق لعباده بعد أن كانت سببا ًفي هلاك أقواتهم، والقضاء عليه.

فهلا أدرك العقلاء اليوم وعلمائهم الحكمة من إباحتها؟ وهل آن الأوان الاعتراف بالقرآن والسنة النبوية المطهرة بأنهما من خالق عليم خبير بأمور خلقه وما يصلحهم وما ينفعهم بدلاً من الإصرار على التمادي في البحث عن الحلول الجزئية الغير مجدية، والإعراض عن الهدي القويم، وتخيل معي كيف يكون الأمر لو اشتهر أمر إباحة الجراد للأكل وتوعية الناس وتثقيفهم ثقافة تناسب دينهم القويم، ما ينتج عنه من القضاء على مصيبة عظيمة وبلاء جسيم بأبسط الوسائل وأقل التكاليف وأسرع الحلول، وإبدالهم بطعام ثبت حله وطهارته ولذته بآخر هو من النجاسة أقرب، بل هو النجاسة بعينه، ولو أردت معرفة المزيد عن طعام بعض الأمم فما عليك إلا أن تسأل عن أنواع الحشرات التي يحبونها والهوام التي يتناولونها فستجد أنهم يتسابقون على الحيات والعقارب والصراصر والديدان، بدلاً من هذه الحشرة الطاهرة التي أحلها الله لعباده فسبحان الله ما أعظمه من دين وما أصدق أدلته التي إن دلت على شيء إنما تدل على أنها من الخالق وما دونه هم الخلق أفلا يتدبرون؟ ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53]، والحمد لله رب العالمين.

مقالات ذات صلة