الليبيون ضحايا العسكرة وهزال التنمية

محمود الريماوي

حرير- في مواجهة آثار الكارثة التي ضربت مدن درنة والبيضا وشحات وسوسة في شرق ليبيا، برزت، إلى جانب مشاهد الدمار، لقطاتٌ لأشخاصٍ من عامّة الناس ومن العاملين في البلدية يبادرون إلى رفع الأنقاض ونقل الجثث إلى الشاحنات مع جموعٍ من أفراد الهلال الأحمر الليبي، وهي تتولّى جهود إنقاذ كل من يمكن إنقاذهم، ورفع العوائق، تهيئة لوصول فرق المساعدة الخارجية التي لم تلبث أن وصلت تباعا إلى البلاد لأداء مهمةٍ إنسانيةٍ بالغة العسر، إذ تحوّلت بعض الأحياء المجاورة لوادي درنة إلى بحيراتٍ شاسعةٍ، فيما أكوام الطين وأجسام المركبات المعطوبة والمقلوبة وجذوع الأشجار المقتلعة وبقايا الأمتعة تتناثر في الشوارع. … وما تقدمّ ذكره مجرّد عيّنةٍ عن الصعوبات اللوجستية الجمّة التي اعترضت جهود الإنقاذ في ظرفٍ عصيب، كانت كل دقيقة فيه تحدّد مصير المصابين والعالقين، بعد أن تعرّضت هذه المدن، وخصوصا درنة، إلى طوفان من المياه في يوم واحد، وبما يعادل ما يهطل على المدينة خلال عام، وبعد أن انهارت الجسور الخمسة التي تربط ضفتي المدينة التي يشقّها وادي درنة الذي حمل الأهوال في اندفاعه الهائج.

وقد اتفق الملاحظون الليبيون على أن انهيار السدّين المقامين على الوادي، سد المنصور وسد البلاد، وبالذات هذا الأخير، قد ضاعف من حجم الكارثة، وتسبّب مع هطول الأمطار شديدة الغزارة التي جاد بها إعصار دانيال بحدوث طوفانٍ ارتفعت فيه المياه داخل الأحياء المجاورة للوادي إلى سبعة أمتار، ما أدّى إلى جرف بعض الأحياء السكنية، ومنها بالذات حي الجبيل.

لم يكن حجم هذه الكارثة متوقعاً ولا متخيّلاً، وبالنظر إلى أن الإعصار قبل وصوله إلى الديار الليبية قد مرّ على اليونان وبلغاريا وتركيا، وأوقع في البلدان الثلاثة معا بضع عشراتٍ من الضحايا، فقد كان الظن المتشائم أن مأساةً قد تقع بهذا الحجم تقريباً في بلد عمر المختار، بفعل الإعصار أو العاصفة الأستوائية. ومع أن الأمطار الغزيزة قد هطلت على أرجاء مختلفة منها العاصمة طرابلس وبنغازي، إلا أن درنة في الشرق نالها النصيب الأعظم من الكارثة التي تسبّبت بصدمة هائلة للأهالي. أما السلطات فقد نالها ارتباكٌ شديد، نظراً إلى حجم الكارثة، ولعدم الاستعداد وضعف الجهوزية للتعامل معها، فيما بدت المفارقة الكبرى في انقسام السلطتين بين شرقٍ تقوده حكومة أسامة حماد الذي خلف فتحي باشاغا، وحكومة الوحدة الوطنية في طرابلس برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وكلتاهما لم تكونا مهيأتين للتعامل مع هذا التحدّي، ولا كان من أولويات الحكومتين الاستجابة له. ومع ذلك، سعى الطرفان إلى إثبات الوجود أمام هذا التحدّي. ولذا فقد قيل إن كلا منهما قد شكّل لجنة للتعامل مع الكارثة. وللمرء أن يتخيّل تأثير هذه الازدواجية في معالجة الوضع، والذي لن يكون إيجابياً، وسوف ينعكس أيضا ًعلى عمل فرق العون والإنقاذ الوافدة من دول شقيقة وصديقة. والراجح أن ممثلي المجتمع المحلي من أبناء المدينة المنكوبة الذين بادروا للإنقاذ في اليوم الأول مع غياب السلطات قد أسهموا في تهدئة الفريقين، وفرضوا أولوية مدّ يد المساعدة العاجلة على أي اعتبار إداري أو سياسي.

يبقى أن الكارثة قد كشفت ضعف البنية التحتية، بل هشاشتها، وبرهنت على أن تنمية البلاد لم تكن محلّ منافسة بين الفرقاء، وأنه إذ عُرف، على مدار عشر سنوات على الأقل، أن الشرق، وعاصمته بنغازي، كان مسرحاً لاستعراض القوة وتكديس الأسلحة وبناء المعسكرات الحربية والمواقع والتحصينات العسكرية، فقد تمت تلك العسكرة وكذا ذلك التجييش على حساب تنمية البلاد وسلامة العباد، وانهيار السدود والجسور مثال صارخ على التقصير، وبخاصة ما تردّد على نطاق واسع بأنه جرى التحذير منذ عقدين على الأقل من ترك السدّين بلا صيانة، غير أن هذه التحذيرات لم تلق أذناً صاغية وسط التنافس السياسي المحموم والجولات والصولات العسكرية، وما تخلّلها من عشرات المؤتمرات داخل البلاد وخارجها من أجل التقريب بين المتنافسين السياسيين، إضافة إلى عشرة ممثّلين أمميين، بينهم ثلاثة عرب، جرى إيفادهم إلى ليبيا، حيث نجح المتخاصمون، وبالذات في الشرق، في إفشال مهماتهم تباعاً، من غير التقليل من تدخّلات أطراف إقليمية ودولية وضعت العصيّ أمامهم.

وإزاء هذه المحنة الجديدة، وقبل أن يجفّ تراب لحود الضحايا ويبرأ المصابون والجرحى، تبرز آمالٌ خجولةُ بأن الشعور بالفاجعة الذي وحّد الليبيين سوف يضغط على الفرقاء المتبارين، بأن يتباروا، هذه المرّة وقبل فوات الأوان، في معالجة آثار الكارثة وإصلاح كل ما يجب إصلاحه من مرافق وإدارات عامة والرفع من مستوى الخدمات الأساسية، وبالذات في مجالات الصحة والمياه والكهرباء والنقل وسلامة الطرق والأبنية، وهو ما يستلزم حُكماً الحدّ من ازدواجية السلطات، ثم المسارعة إلى وضع حد لها، وذلك تفادياً لانفجار اجتماعي، بات مختمرا بعد أن تكشف التقصير الفادح في الإدارة الرشيدة والناجعة للبلاد، ما أسهم في مضاعفة الكارثة، وترك الضحايا بلا حوْل ولا قوة أمام غضب الطبيعة، علماً أن الإعصار، وهو مزيج من الأمطار الغزيزة والرياح العاتية، وبخلاف الزلازل، يخضع للرصد الجوي، وقابل للتوقّع، وحتى تحديد مواقيته، وقد اقتصرت التحضيرات لاستقباله والتعامل معه على تعطيل المدارس.

مقالات ذات صلة