مدينة مكناس المغربية صاحبة التاريخ المشرق تعيش مأساتها

 مكناس باريس بلاد المغرب، هكذا كان ينعتها بل ويخطط لمستقبلها المستعمر الفرنسي في أوائل القرن العشرين. ولا غرابة إذ أن مؤسسها السلطان المولى إسماعيل العلوي (1645 -1727) الذي كانت له علاقات وثيقة مع الملك الفرنسي لويس 14 قد جعل منها عاصمته السياسية مدى سنوات حكمه خلافا لباقي سلاطين الدولة المغربية، الذين لم تخرج عروشهم أبدا عن مثلث عواصم فاس أو الرباط أو مراكش.

تقع مدينة مكناس في قلب شمال المغرب، وموقعها الاستراتيجي هذا جعلها في ملتقى أهم الطرق الرئيسية الوطنية ومحورا هاما على مستوى الحركة الاقتصادية والسياحية. فهي لا تبعد عن مدينة زرهون التي يوجد فيها ضريح مؤسس الدولة الإسلامية في المغرب إدريس الأكبر سوى 30 كم، وعن العاصمة الرباط 140 كم شرقا، وعن فاس جارتها العاصمة الروحية والعلمية 60 كم جنوباً، وعن طنجة في شمال المدينة السياحية العالمية بوابة المغرب على أوروبا سوى 350 كم.

وتختلف الروايات حول تسميتها مكناس، فقد أشار بعض المؤرخين إلى أن أصل الاسم يعود إلى كلمة “الكناس” التي تعني في العربية الفصحى المجال الطبيعي الخصب الذي ترعى فيه الغزلان، وقد استبدل فيه حرف التعريف (أل) بحرف (الميم) لأن بعض القبائل العربية التي وفدت على المنطقة، ومن اليمن تحديدا كانت تنطق هكذا في التعريف حرف الميم بدل (أل). وقد لا نستبعد أن تكون هذه الفرضية صائبة. وهناك فرضيات أخرى تقول إن المدينة قبل الميلاد كانت موطنا لقبيلة زناتة الأمازيغية وكان أحد فروع هذه القبيلة يلقبون بـ “أمكناسن” ومن هنا جاءت تسمية المدينة “مكناس” نسبة إلى هذه قبيلة. وهناك فرضية أخرى تقول إن الاسم يعود إلى قبيلة مكناسة الأمازيغية، مع ملاحظة وجود بعض المناطق في المغرب الأقصى ودول المغرب الكبير في الجزائر وتونس وليبيا، تسمى أيضا مكناس أو مكناسة، مما يرجح فرضية جذور هذا الاسم الأمازيغي خلافاً للفرضية الأولى.

السلطان إسماعيل العلوي

لم تدخل مكناس التاريخ المغربي والعالمي من بابه الواسع إلا بعد أن اتخذها السلطان إسماعيل العلوي عاصمته الإدارية والاقتصادية والروحية منذ عام 1672 حتى 1727. وقد عرف هذا السلطان بشجاعته وبأسه الشديد وسمعته العالية التي وصلت إلى آفاق أوروبا الصليبية آنذاك في القرن السابع عشر، حيث كانت تهابه في الضفة الأخرى من المتوسط مملكة قشتالة (إسبانيا والبرتغال حاليا) وبلاد الإفرنجة (فرنسا) وبلاد الغال (إنكلترا) لما كان يتدجج به من ترسانة حربية متقدمة من جيوش تقدر بعشرات الآلاف تسمى “جيش البخاري” مما جعل الملك الفرنسي لويس 14 يتودد إليه، موثقا علاقات الصداقة، فكانا يتبادلا الهدايا والبعثات الدبلوماسية بينهما، لذلك استوحى السلطان المغربي من عاصمة باريس العديد من هندساتها الباذخة وخصوصا قصر فيرساي، فشيد في عاصمته مكناس الحدائق والقصور والاصطبلات والمخازن، ولعل أهمها على الإطلاق معلمة باب المنصور الذي يقع في ساحة لهديم، وهو من أعظم الأبواب التاريخية في المغرب، إن لم يكن في شمال افريقيا على الإطلاق.

ساحة لهديم

وتعد ساحة لهديم التي يتواجد فيها باب المنصور لعلج من أشهر الساحات التاريخية بالمملكة المغربية إلى جانب ساحة جامع لفنا في مراكش وساحة بوجلود في فاس. إلا أن ساحة لهديم تمتاز بشساعتها وباعتبارها محورا مركزيا لمدينة مكناس وجسرا أساسيا للعبور إلى جميع الاتجاهات سواء إلى الأحياء الشعبية الجنوبية، أو إلى الحي السلطاني شرقا أو إلى المدينة العتيقة قبة السوق غربا، حيث تنشط الحرف والمهن التقليدية كالنجارة والحدادة والخياطة والصياغة والدباغة وتجارة الأثواب والألبسة التقليدية. كما تعتبر الساحة معبرا أساسيا للمدينة الجديدة التي تسمى حمرية، التي شيدها الاستعمار الفرنسي قبل مئة عام تحديدا. والتي ما تزال إلى اليوم تزخر بالعديد من المعالم العمرانية الراقية التي تتواجد جلها في الحي الإداري، كمقر بريد المغرب ومقر البلدية ومفوضية الشرطة وقصر العدالة والمتاجر، وبعض مرافق الترفيه كالمقاهي والنوادي ودور الشباب والملاعب الرياضية والفنادق الفاخرة.

مدينة الأسوار

وتمتاز مكناس أيضا بأنها مدينة الأسوار التي تحيط بها من الجهات الأربع والمؤثثة بعشرات البوابات العالية ويبلغ طول هذه الأسوار مايقارب 50 كيلو وكان الهدف من تشييدها حماية العاصمة الإسماعيلية من مختلف الهجمات الحربية والمناوشات المغرضة سواء من القبائل الأمازيغية المناوئة للحكم العلوي أو من الهجمات المحتملة للصليبيين في عصور الاكتشافات الجغرافية الكبرى التي قادتها اسبانيا والبرتغال وبريطانيا. كل هذه الذخيرة والإرث الحضاري والتاريخي لمدينة مكناس أهلها بامتياز كي تدرجها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “يونيسكو” في عام 1996 في قائمة التراث العالمي.

المكون الاجتماعي

كان الموقع الجغرافي ومكوناته الطبيعية المشجعة والمحفزة على الحياة والعيش والتعايش بين البشر هو المحدد الرئيسي لتنامي الكثافة السكانية والهجرة واختلاط الأعراق والإثنيات، وبالتالي تشكيل فسيفساء المجتمعات بشكل عام. كما أن التعايش والتسامح والسلم الاجتماعي الذي ينعم به المغرب قد أسهم كثيرا في تذويب الفوارق الإثنية والعرقية في جسد المجتمع المكناسي والمغربي عموما، مما أهل جميع أطياف سكانه إلى التمازج والاختلاط، فقد نجد في العائلة الواحدة أصولا عربية وأمازيغية أو صحراوية وأندلسية وحتى ذات أصول من الشرق العربي ولا غرابة في ذلك حين نجد ألقابا كثيرة تحيل على أصولها الشرقية مثل البغدادي واليمني والتونسي والغزاوي والمكاوي والهاشمي والمديني والحضرمي. فموقع مكناس شجع مئات الآلاف من سكان المغرب على الهجرة إليها خصوصا بعد الاحتلال الفرنسي منذ عام 1912 بحثا عن حياة عصرية أفضل، مما جعل تركيبتها السكانية عبارة عن تشكيلة من الأمازيغ والعرب والصحراويين والأندلسيين واليهود. وتعتبر اللغة الدارجة الممهورة ببعض الكلمات الأمازيغية وقليل من الكلمات اللاتينية المدرجة هي اللغة المتداولة في المجتمع المكناسي وفي الفضاءات الإدارية والاجتماعية. أما اللغة الأمازيغية الأم التي أقرها دستور2011 كلغة رسمية فيتم تداولها بين السكان الأمازيغ في بعض المدن والقرى المجاورة لمدينة مكناس كمدن أزرو، والحاجب، وإفران، والأخيرة تعتبر من أجمل المنتجعات الجبلية ليس على صعيد المغرب فحسب بل على صعيد القارة الافريقية حيث تم تصنيفها كثاني أنظف مدينة في العالم.

المكون الثقافي

تعتبر مكناس من أهم مراكز الإشعاع الثقافي في المغرب قديما، مقارنة باليوم، حيث تواجدها بين فاس والرباط اللتان تستأثران باهتمام السلطات المركزية أكثر منها منذ الاستقلال. لقد أنجبت مكناس عددا من العلماء كما استقر فيها كثير منهم على عهد حكم إسماعيل العلوي، ولعل المآثر والفضاءات التاريخية لخير دليل على ذلك، وأهمها خزانة الجامع الأعظم. كما أنجبت أيضا العديد من أعلام الفكر والأدب والعلم والسياسة، أشهرهم أبوعبد الله محمد بن عبد الوهاب المكناسي توفي سنة 1799 وهو رحالة ومؤرخ ووزير وسفير مغربي. ومن أشهر رجالات المدينة كذلك العلامة مولاي عبد الرحمان بن زيدان ويعتبر من بين الأعلام الذين خلدوا مجد الدولة العلوية بمؤلفاته وأشعاره، التي ظل منكبا على إنجازها حتى مماته، وقد بلغت مؤلفاته زهاء سبعة وعشرين ما بين مطبوع ومخطوط، وجلها في تاريخ الدولة العلوية منها “إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس”. ومن بين الشخصيات المشهورة في قصيد الزجل في مكناس والمغرب الأقصى بل والمغرب الكبير نجد سيدي عبد الرحمان المجدوب. وقد عرف بتصوفه وأشعاره الزجلية التي أرخت لتجربته الاجتماعية ووثقت بالتالي حكم قصائده البليغة التي باتت كثيرمن أبياتها يرددها المجتمع المكناسي. ومن أيقونات المدينة أيضا زجال وشاعر آخر هو سيدي قدور العلمي (1742 ــ 1850) وهو من أحد أكثر شعراء المغرب شهرة بسبب تجربته الحياتية المريرة بعد أن فقد داره وظل هائما وشريدا في حارات مكناس العتيقة حتى باتت رمزية شخصيته ملهمة لعديد من الأدباء وكتاب السيناريو، فتم توظيفها كثيمة أساسية في عدد من المسرحيات الموسومة باسمه.

المشهد الثقافي اليوم

عانت مكناس من التهميش الثقافي والاقتصادي بالرغم إرثها التاريخي العظيم، خصوصا منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي إلى اليوم، فعديد من الفضاءات الثقافية أصبحت متقادمة ويعود تاريخ بنائها إلى عهد الحماية مثل دار الشباب والمعهد الموسيقي بشارع محمد الخامس. وعرفت المدينة كذلك بعد تعاظم دور وسائط التواصل التكنولوجية الحديثة إغلاق ما يقارب عشر قاعات للسينما، كما تم مؤخرا تحويل فعاليات أشهر مهرجان وطني للمسرح والذي كان ينظم في مدرجات حديقة الحبول إلى مدينة تطوان شمال المملكة، إلى غير ذلك من الانتكاسات الثقافية التي عرفتها المدينة في العقود الأخيرة، رغم تواجد العديد من المثقفين والفنانين فيها، مثل الأكاديميين المسرحيين حسن المنيعي وعبد الرحمان بن زيدان، والشعراء عبد السلام الزيتوني وعلال الحجام وبنسالم الدمناتي والزجالين محمد بنعيسى ومحمد الراشق، والمطربة العربية الكبيرة عزيزة جلال والمطرب فؤاد الزبادي والإعلامي مصطفى العلوي ومليكة الملياني الشهيرة بلقب السيدة ليلى وغيرهم.

وفي سياق هذه الجولة، كان لزاماً استطلاع آراء ومواقف بعض المثقفين الذين آثروا الإقامة في المدينة، خلافا لعديد من الكتاب والفنانين الذين فضلوا البحث عن فضاءات النجومية في المدن المغربية الكبرى.

في القلب

يقول الشاعر علال الحجام، من شعراء جيل السبعينات، إن “الشّعور بالانتماء إلى مكناس تتجاذبه حسب تقديري مشاعر متضاربة، فهناك من جهة مشاعر الاعتزاز بشموخها بما هي حاضرة تنبض تاريخاً وثقافة وإثنيات مما جعلها بحقّ مدينة مفتوحة في وجه كل وارد، على العكس تماما من كثير من المدن المغلقة التي تناصب العداء لكل طارئ. لكن هذه المشاعرمن جهة أخرى تدعونا للأسف عليها لما آلت إليه في السّنوات الأخيرة من تردّ، فهي تكبر وتتضخّم دون أن يتحقق أي انسجام بين حاضرها وماضيها، بل تفقد على العكس من ذلك الكثير مما كانت تحفل به من رونق وثراء بقدر ما تترهّل أرجاؤها وتتسع، هذا فضلا عن كون المدينة التي كان يقدّرها المستعمر الفرنسي حقّ قدرها ويعرف أهميتها، لدرجة تسميتها بفرساي الصغيرة، لم تعد تجد العناية والتقدير والدليل على هذا تراجع منزلتها بالنسبة للدولة، وتضاؤل مكانة نخبها قياسا بما كانت عليه قديما. ومهما يكن من أمر فإنّ مكناس الغنّاء التي في القلب تبقى مع ذلك هي الرّحم الذي حملني سنين، وألهمني اكتشاف مسالك الإبداع ومكنني من ربط علاقات عشق مع فضاءاتها وآثارها وحدائقها وجمعياتها ومؤسساتها الثقافية والشبابية”.

 الحاضرة الأولى

 

أما المترجم والروائي عبد النبي كوارة فيقول، إنه مما يتبادر إلى الذهن، بل مما يحيره هو “الحديث عن أمس وحاضر المدينة التي شاء لها أن تحضنك وكان من قدرك أن تنتمي إليها، ومهما حاولت إخفاء نرجسية وشوفينية الانتماء لمدينة مكناس لأنتصر لمدن كل الوطن، فغالبا ما أنهار أمام عشقها الذي حملته معي في كل غرباتي المدية والقصية، لأدرك أنني أبدا لن أستبدل حبها بحب مدينة أخرى، فما الحب إلا للحاضرة الأولى”.

كبرت مكناس وامتدت على ظهر الصفيح، تعطل نموها وتأخرت تنميتها، وهي اليوم جزيعة ينهشها أبناؤها قبل الغرباء عنها ممن تولوا تدبير شؤونها.

هي التي تسكنك

أما البروفيسور مصطفى الشكدالي الأخصائي في علم الاجتماع فيقول، “مكناس هي المدينة التي لا يمكنك أن تسكنها دون أن تسكنك. هذه خلاصة تجربتي. هذه المدينة تتجاوز المكان بمعناه الفيزيقي إلى الفضاء بمعناه الطقوسي. ففضاء المدينة يظل مفتوحا على التراث في بعديه المادي واللامادي، أسوارها الشاهقة وأضرحتها المترامية في كل مكان من المدينة العتيقة تجعل من يقطنها محملا بعمق التاريخ والذي يأخذ صبغة المخزون النفسي من تصورات ومخيال وطقوس. مكناس هي المدينة العيساوية/ الصوفية والتي تتقاطع مع فن الملحون وأشجار الزيتون لتسكن بذلك وجدان قاطنيها وإلى الأبد”.

 

المعركة مستمرة

وفي الختام يقول السيناريست والروائي عبد الإله الحمدوشي، مدينة “مكناس خليط من السحر والخرافة والتاريخ. مدينة يحرسها الأولياء، وهواؤها عابق بالنعناع. وماؤها قامت من أجله معركة تسمى معركة ماء بو فكران. معركة الكرامة التي خاضها المكناسيون إبان الاستعمار من أجل مائهم العذب الزلال. المعركة التي لم تتوقف وباتت اليوم معركة من أجل التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية”.

مقالات ذات صلة