مساهمة المسلمين في تأجيج الإسلاموفوبيا

عبد الوهاب الأفندي

حرير- عندما أصدر سلمان رشدي روايته البالغة الإسفاف، آيات شيطانية، في عام 1988 لم أقرأ أكثر مقاطعها بذاءة وإساءة إلى الذوق السليم والحس الديني في مجلة لندن ريفيو أوف بوكس، ولا في صحيفة ذي صن وغيرها من الصحف الصفراء، بل في أبرز مجلة كانت تُصدرها الجالية المسلمة في بريطانيا حينها. اجتهد الكاتب (وأعتقد أنه كان رئيس تحرير المجلة، عليه رحمة الله) في قراءة الرواية بعناية، واختار منها أسوأ المقاطع التي كانت تستهزئ بشخص النبي، صلوات الله عليه وسلامه، وأمهات المؤمنين وأبطال الإسلام، ونقلها كلها حرفيا، بكل ما فيها من بذاءات وإيذاء للذوق السليم، ناهيك عن الورع الديني. ولم يكتف بذلك، بل قام هو وكثيرون غيره بتصويرها وتداولها بين عشرات آلاف الأشخاص، داخل بريطانيا وخارجها. أصبحت هذه المقاطع المؤذية تُتلى في المظاهرات، ويشار إليها على منابر المساجد، وتردّد في المجالس والمنتديات، كما لو كانت قرآناً يُتلى. وقد تُرجمت المقاطع إلى لغات عدة، فاطّلع عليها مسلمون لا يقرأ معظمهم الإنكليزية. وما لبثت المظاهرات التي انطلقت في معظم مدن بريطانيا أن نقلت محتواها إلى صدر نشرات الأخبار المُذاعة والمتلفزة والمقروءة، قبل أن تنتشر إلى بقية أنحاء الكوكب.

ويقال إن الإمام الراحل آية الله الخميني علم بالرواية وبما احتوته من سخرية (شملته هو ورئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر) عندما بلغه خبر مقتل ثلاثة من المتظاهرين عند فضّ مظاهرة شهدتها مدينة كراتشي الباكستانية، كانت تستهدف المركز الثقافي الأميركي في المدينة (رغم أن أميركا لم تكن لها علاقة بالرواية وقتها)، أصدر عندها على الفور فتواه الشهيرة بإهدار دم رشدي. (علق وقتها أحد الظرفاء من الكتّاب البريطانيين على هذه الفتوى التي صادفت يوم عيد الحب في منتصف فبراير/ شباط 1989 قائلاً: يبدو أن هذا الحكم ينقل النقد الأدبي إلى مستوى جديد!).

تأثرتُ بهذا “النقد الأدبي الصارم”، وقرّرت أخيراً أن أطّلع على الرواية التي ربما كانت أول رواية في التاريخ تتصدّر نشرات الأخبار التلفزيونية في كل بلد. ذهبت إلى المكتبة العامة للحصول على نسخة من الكتاب (فلم أكن لأدفع مليماً لشرائها)، فأبلغتني الموظفة أني رقم 27 في صفّ طالبي نسخة، ما كان يعني أنه قد يكون عليّ الانتظار أشهرا قبل قراءتها.

خلاصة الأمر أن نشاط المسلمين في تداول مقاطع من تلك الرواية، وتنظيم ومظاهرات عديدة وصاخبة حولها، شمل بعضُها حرق نسخ من الكتاب، وأخيراً فتوى الخميني بشأنه، قد أعطى سلمان رشدي تماماً ما كان يريده، فقد سوّق الرجل روايته أنها ستثير غضباً شديداً بين المسلمين، ما سيوسّع انتشارها. وعليه، منحته دار نشر فايكنغ مليون دولار مقدماً على حقّ نشر الرواية. وقد علمتُ من أستاذنا الراحل إدوارد سعيد في لقاء خاص في جامعة كامبريدج عام 1994 أن رشدي بالفعل كان يروّج هذه الزاوية في روايته، أي إثارة غضب المسلمين، حتى قبل نشرها. وكنت قد انتقدت دعم إدوارد لرشدي، وقلت له إنه كان يعلم من التجربة الهندية أن الإساءة إلى رسول الإسلام تفجّر غضباً لا حدود له، فقد قتل أكثر من مؤلف هندي حاول المساس بالرسول. بل جرى إحراق صحيفة في الثمانينيات وقتل 39 من العاملين فيها (وقد غطّت المجلة التي كنت أدير تحريرها في لندن تفاصيل الحادثة) لمجرّد عنوانٍ لقصة قصيرة فُهم منه خطأً أنه قصد الإساءة إلى الرسول الكريم. فتذكّر إدوارد بالفعل أن رشدي عندما أطلعه لأول مرة على مسودة الرواية عند زيارة إدوارد له في منزله أن أول ما قاله له إن هذه الرواية ستغضب المسلمين غضباً شديداً.

وأذكر هنا أنني كنتُ من الأصوات القليلة، إن لم أكن الصوت الوحيد، في صفوف المتحدّثين باسم الجالية الإسلامية في بريطانيا وقتها، الذي عارض هذا الهياج غير المدروس، باعتبار أنه لم يكن يفعل سوى تحقيق مزيد من الشهرة لهذا الكاتب ذي النوايا الخبيثة. وكنتُ أكرّر أنه لا يجب أن نكون مثل الثور الذي تهيّجه الخرقة الحمراء فتقوده إلى حتفه، وأن رد الفعل يجب أن يكون عقلانياً، إلا أن العقل كان غائباً ومغيّباً في تلك الأيام.

كان هناك بالفعل معلقون قلائل خاطبوا الجمهور البريطاني بخطاب قوي ومتّزن في إدانة رشدي وبذاءاته، كان في مقدمتهم المؤرخة والأديبة السورية رنا قباني وفيلسوف شاب وقتها (رحل أخيرا رحمه الله) هو شابير أختر، أما البقية فقد جرفهم التيار. وأذكر هنا أن أحد أبرز رموز الجالية الإسلامية وقتها، وهو مغنٍ سابق اعتنق الإسلام، وله قدرة استثنائية على مخاطبة الرأي العام البريطاني، سُئل في مقابلة تلفزيونية عما إذا كان سيقتُل سلمان رشدي إذا صادفه بما أنه يؤيد فتوى إهدار دمه، فأجاب: لا، ولكن سأرشد إلى مكانه من يفعل ذلك!

مهما يكن، أصبح الجميع مروّجين لرشدي وكتاباته. … حدث الشيء نفسه مرّة أخرى، عندما نشرت صحيفة دنماركية في سبتمبر/ أيلول عام 2005 رسوماً كاريكاتورية مسيئة إلى الرسول الكريم. وكما هو معروف، يتحدّث اللغة الدنماركية أقل من ستة ملايين شخص، ومن يقرأ تلك الصحيفة منهم نسبة ضئيلة. ولو تُرك الأمر لوضعه الطبيعي، لما سمع أحد، حتى في الدنمارك، بتلك الرسوم، فحتى قراء الصحيفة ربما مرّوا عليها بدون انتباه. إلا أن فئة من “قادة” الجالية الإسلامية في الدنمارك أصرّت على التطواف على سفارات الدول الإسلامية، ثم على العواصم العربية والإسلامية، ومعهم الرسوم (مع ترجمة بالطبع) ليلفتوا الانتباه إلى شيءٍ لم ينبته إليه أحد. ونتيجة لذلك بدأت المظاهرات في نهاية يناير/ كانون الثاني من عام 2006، أي أن الأمر استغرق أكثر من ستة أشهر من الحملات لترويج هذه الرسوم، حتى سمع بها المسلمون، وبدأوا بالتفاعل معها، ثم سمع بها بقية العالم كنتيجة لهذه المظاهرات التي قتل فيها أكثر من 250 شخصا. ويعود الفضل في ذلك لهذه الاجتهادات “الإسلامية” في إشاعة (ونشر) هذا التهجّم الذي لم يصبح تهجّماً حقاً إلا باجتهادهم. وكانت القضية ستموت في مهدها.

للكتابات والرسوم والروايات والأقاويل المسيئة للإسلام تاريخ طويل في العالم الغربي، وتوجد منها أطنان، ولكن لا أحد يعبأ بها، ولا يقرأها إلا قلة، ومعظمهم لا يقبلها أو يحفل بها. ولو تُركت هذه المساهمات، مثل رواية رشدي ورسومات الصحيفة الدنماركية لحالها، لأصبحت نسياً منسيّاً.

هذه الملاحظات ضرورية قبل التعليق على حرق شخص نكرة نسخا من المصحف الكريم في العاصمة السويدية ستوكهولم في شهر يونيو/ حزيران الماضي، ومحاولته تكرار تلك الجريرة في شهر يوليو/ تموز. وقد أدّى ذلك الحدث إلى مظاهرات في السويد وفي عدة بلدان إسلامية. لم أحاول وقتها البحث في هوية هذا الشخص، ولا يهمّني معرفة اسمه. وكنت أتمنّى ألا يُعطى أي اهتمام. ولكن ما تبع هذه الحادثة من مضاعفات جعلها تتصدّر الأخبار العالمية، ونتجت عنها أحداث عنف وضحايا كثر، ما دفعني إلى تقصّي الأمر. ومعروفٌ أن هذه لم تكن أول حادثة من نوعها في السويد ولا في غيرها، فقد هدّد قسّ أميركي بحرق نسخة من المصحف في ولاية فلوريدا في 11 سبتمبر/ أيلول عام 2010، ودعا إلى جعل الحادي عشر من سبتمبر “يوم حرق القرآن”. ولكنه عدل عن ذلك، بعدما حذر الرئيس أوباما وقتها من أن هذا قد يؤدّي إلى العنف وتهديد حياة كثيرين. إلا أن ناشطاً فرنسياً أحرق في ذلك الشهر نسخة من القرآن في ستراسبورغ، ووجهت له إثرها تهمة إثارة الكراهية. وقد أحرق القس الأميركي نفسه في العام التالي (مارس/ آذار 2011) بالفعل نسخة من المصحف علناً.

تكرّرت بعد ذلك حوادث تدنيس المصحف في الدنمارك والنرويج بين عامي 2017 و2019 من نشطاء من اليمين المتطرّف. وفي السويد نفسها، أحرق طالب لجوء مصري المصحف ودنّسه وصوّر نفسه وهو يرتكب هذا الفعل الشائن، ونشر الفيديو على يوتيوب. وقدّم هذا التسجيل إلى السلطات دليلا على أن رفض طلبه اللجوء وإعادته إلى مصر سيعرّضه للخطر. وبالفعل، مُنح الشخص اللجوء، ثم أصبح صحافياً مشهوراً في السويد. ولكن إهمال الجميع هذه الحادثة لم يحولها إلى قضية عامة.

من جهة أخرى، بدا زعيم حزب دنماركي يميني متطرّف في عام 2020 حملات منظّمة في السويد (يتمتع بالجنسية أيضا) لتدنيس المصحف وحرقه. وقد فجّر نشاطُه مظاهرات عنيفة في عدة مدن سويدية في صيف عام 2020 ثم ربيع عام 2022. وفي يناير من هذا العام، أحرق الشخص نفسه المصحف أمام السفارة التركية في ستوكهولم، بالتزامن مع تظاهر مجموعة من أنصار حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً من تركيا والولايات المتحدة أمام السفارة. دفع هذا تركيا إلى تعليق المفاوضات مع السويد بشأن عضوية الأخيرة في حلف الناتو. وفي يونيو/ حزيران الماضي، مزق لاجئ عراقي من أصل مسيحي (أصبح من دعاة الإلحاد)، المصحف وحرقه ودنسه تحت حماية الشرطة أمام المسجد الكبير في ستوكهولم، وفي يوم عيد الأضحى المبارك. وقد فجّر هذا الفعل احتجاجات عنيفة شملت اقتحام سفارة السويد في بغداد في يوليو/ تموز الماضي.

يشير كل ما سبق إلى أن مساعي تدنيس المصاحف وحرقها، والإساءة اللفظية إلى المقدّسات الإسلامية عموماً لا تؤدّي أغراضها بدون تعاون المسلمين في التهويل منها وانتهاج ردود فعل عنيفة ضدها، فمن يرتكب هذه التجاوزات هم في الغالب فئات سياسية (أو حتى أفراد) يريدون تحقيق أهداف خاصة (كما في حالة طالبي اللجوء)، أو أهداف سياسية كما في حال المساعي المشتركة بين المتطرّفين الأكراد والمتطرّفين اليمينيين في اسكندنافيا للإساءة للعلاقات التركية السويدية، وتعطيل انضمام السويد لحلف الناتو (غالباً بتحريض ودعم وتمويل روسي). يريد اليمين المتطرّف أيضاً إذكاء التعصّب ضد المسلمين ومنع الهجرة، وذلك بتصوير المسلمين أنهم يميلون إلى العنف، ويهدّدون الحريات والثقافات المحلية في أوروبا. ويعجبك في هذه الحالة تعاون المسلمين المتحمّس لتحقيق هذه الأهداف!

ويشير العقل، حيث وجد، إلى أن مثل هذه المحاولات ما كانت لتنجح لولا مسارعة المسلمين إلى تنفيذ السيناريوهات التي خطط لها هؤلاء المغامرون. فلو أن المسلمين أهملوا تماماً مثل هذه الألاعيب، ولم ينقلها الإعلام العربي ويهوّل منها، فإنها كانت تموت في مهدها وتُصبح بلا مردود. وهذا يعني أنها ستتوقف وتندثر. وحتى لو تظاهر المسلمون سلمياً ضد هذه الممارسات، فإن النتيجة ستكون مختلفة، رغم أن التظاهر السلمي نفسه قد يعطي هذه الأفعال التافهة اهتماماً غير مستحق. فالواضح أن مرتكبي هذه الحماقات يلوذون بالقوانين الحامية لحرية التعبير، ويصوّرون أنفسهم أنهم ضحايا عنف المسلمين الذي يقوّض هذه الحريات. ولو أن المسلمين احتجّوا سلمياً على هذه الممارسات، فإنهم يسحبون من المتطرّفين ورقة حرية التعبير، وسينضم إليهم كثيرون من دعاة الحرية في السويد وغيرها، ما يُنشئ تحالفاً قوياً ضد التطرّف والمتطرّفين. هذا مع أن الأفضل عندي هو الإهمال التام لهذه الألاعيب، حتى يموت المتطرّفون بغيظهم، ويخسروا الدعاية المجانية.

دفعت الجاليات المسلمة في الغرب ثمناً غالياً بسبب سقوطها في فخّ مغامرات المتطرّفين وطالبي الشهرة، بحيث أصبح أقصر طريق إلى النجومية عند كل أفاك أثيم هو الإساءة إلى الإسلام، والدعاء إلى الله أن تأتي ردّة فعل المسلمين المتوقعة، فيفوز المتطرّف النزق فوزاً عظيماً.

أما آن الأوان لأن يكفّ المسلمون عن العمل، مجّاناً، في وظيفة كومبارس في مسرحيات المتطرّفين السيئة الإخراج، ويتوقّفوا عن الإساءة لأنفسهم ودينهم بهذه التصرّفات غير المدروسة؟

مقالات ذات صلة