اقترب موسم الخير والطاعات فشَمِّروا

جمال نصار

حرير- أيام الخير ومواسم الطاعات محدودة، والتاجر الشاطر، والمدير الناجح، هو الذي يُخطط لعمله، ويُحدد أهدافه، ويُنظم أوقاته حتى تكون تجارته رابحة مُثمرة، فما بالنا بالتجارة مع الله الذي خلق كل شيء، وسخّر لنا الكون كله، فمن الأولى، وحُسن التأدّب معه، سبحانه وتعالى، أن نهتم بشكل جيد ونضع الخطط والتصورات والاستراتيجيات في كيفية التعامل مع الله، تبارك وتعالى.

والحقيقة أن الله، عز وجل، رسم لنا الطريق وحدّد لنا الأسلوب في كتابه العظيم، حتى لا تكون لنا حُجة في التقصير، بل أرسل لعموم البشرية الرسل والأنبياء لكي ينقذوا البشر من متاهات الضلال، ويأخذوا بأيديهم من الظلمات إلى النور، ومن المتاهات والضياع إلى الاستقامة والانصياع، قال تعالى: (رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 165).

والنبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، حثّنا إلى السعي بكل السُبل للاستفادة من أوقات الخير، ومواسم الطاعات، وخصوصًا أننا على مقرُبة من شهر رمضان الكريم الذي تتضاعف فيه الحسنات، وفيه يُسلسل الشياطين المَرَدة، وتُفتّح أبواب الجنان، وفيه ليلة خير من ألف شهر: (إذا كانَ أوَّلُ ليلةٍ من رمضانَ صُفِّدَتِ الشَّياطينُ مردَةُ الجنِّ، وغُلِّقَتْ أبوابُ النّارِ فلم يُفتَحْ منها بابٌ، وفتِحَت أبوابُ الجنَّةِ فلَم يُغلَقْ منها بابٌ ونادى مُنادٍ: يا باغيَ الخيرِ أقبل ويا باغيَ الشَّرِّ أقصِر، وللهِ عتقاءُ منَ النّارِ).

إنها لفرصة عظيمة أن نغتنم هذه الأيام المباركة، ونتهيأ لاستقبال شهر الصوم والبركات، ومضاعفة الحسنات، ومن ثمّ التقصير في هذه الأيام، وتضييع الساعات والأوقات في المسلسلات والأفلام، وغير ذلك من مظاهر اللهو، لهو من علامات الشقاء والتعاسة، وسوء التقدير.

ورسولنا وقدوتنا، صلى الله عليه وسلم، وهو من غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر كان يتهيأ لهذا الشهر الكريم قبل قدومه، بالتضرع والدعاء لله، عز وجل، ولم يكن حاله، صلى الله عليه وسلم، في رمضان كحاله في غيره من الشهور، فقد كان يومه في هذا الشهر مليئًا بالطاعات والقربات، وذلك لعلمه بما لهذه الأيام والليالي من فضيلة خصّها الله بها، وميّزها عن سائر أيام العام.

وسلف الأمة كانت لها حالات مخصوصة، بالتهيؤ والاستعداد لهذا الشهر العظيم، شهر القرآن، والرحمة، والغفران، والعتق من النيران، وقد جاءتْ كثير من الروايات تصف أحوالهم مع شهر الصيام، وتقلّبهم في الطاعات، بداية من الدعاء، فكان عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، يدعو الله، تبارك وتعالى، بقوله: “اللهمَّ زِدْنا ولا تَنقُصْنا وأَكرِمْنا ولا تُهِنَّا وأَعطِنا ولا تَحرِمْنا وآثِرْنا ولا تُؤثِرْ علينا وارضَ عنَّا وأَرضِنا”.

وكان ديدنهم الفرح بقدومه والابتهاج بحلوله، قال مُعَلَّى بن الفضل: “كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم”، وكان يحيى بن أبي كثير يقول: “اللهم سلِّمنا إلى رمضان، وسلّم لنا رمضان، وتسلمه منا متقبلًا”.

وكان للقرآن الكريم عندهم في هذا الشهر الفضيل شأن عظيم، فهذا الأسود بن يزيد، رضي الله عنه، يُروى عنه أنه كان يعكف على القرآن في رمضان حتى يختمه كل ليلتين، وكذلك كان يفعل سعيد بن جبير، رضي الله عنه، وكان قتادة يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاثٍ، فإذا جاء العشر ختم كل ليلة، وهذا محمد بن إسماعيل البخاري، رحمه الله، كان يجلس بعد صلاة القيام ليختم القرآن كل ثلاث ليالٍ، وهذا مالك بن أنس، رحمه الله، إمام دار الهجرة كان إذا دخل عليه رمضان يُقبل على تلاوة القرآن من المصحف، ويترك كل شيء حتى مدارسة الحديث، ومجالسة أهل العلم، وسفيان الثوري، رحمه الله، كان إذا دخل عليه رمضان أيضًا ترك كل مشاغل الدنيا، وأقبل على قراءة القرآن.

هكذا كان حال السابقين مع رمضان، فقد ترك هؤلاء فضائل الأعمال التي هي دون القرآن الكريم في المثوبة والأجر، فما بالنا نحن لا نريد أن نعزم على ترك المحرمات والمكروهات في تلك الأوقات التي ينادينا فيها منادي السماء: أن يا باغي الخير أقبل.

وكان من هديهم، رضوان الله عليهم، في رمضان، أيضًا، الصبر على الصوم مهما كان شاقًا، فقد روي عن الأحنف بن قيس أنه قيل له: إنك شيخ كبير، وإن الصيام يضعفك، فقال: إني أُعدّه لسفر طويل، والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه.

كما كان من عادة السابقين عدم الهزل في رمضان، والحرص على استغلال الأوقات، فقد جاء في إحياء علوم الدين أن الحسن البصري، رحمه الله، مرّ بقوم، وهم يضحكون فقال: إن الله، عز وجل، جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا، وتخلّف أقوام فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون، وخاب فيه المبطلون.

هذا بالإضافة إلى حفظ سائر الجوارح عمّا نهى الله عنه، فعن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال: إذا صُمتَ فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء، وكان أبو هريرة يقول: إذا كنت صائمًا فلا تجهل ولا تساب، وإن جُهِل عليك فقل: إني صائم.

هكذا يجب أن نسعى ونستعد لهذا الشهر الفضيل، بعمل الخيرات وترك المعاصي والمنكرات، والتقرب إلى الله، عز وجل، بالعيش مع القرآن، والالتزام بالأذكار آناء الليل وأطراف النهار، وقيام الليل بالأسحار. فالصيام الحقيقي هو الذي يُزيد من تقوى الله، ويُبعد الإنسان عن الرفث، والفجر، والفسوق، والكذب، والزور، وعقوق الوالدين.

ومن ثمَّ علينا اقتفاء أثر سلف الأمة الكرام، وسلوك طريقهم، كما قال الشاعر:

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبُه بالكرام فلاح

اللهم بلغنا رمضان.

مقالات ذات صلة