هجوم باريس … للأسف لم يكن الجاني مسلماً

سلام الكواكبي

حرير- أطلق أحدهم النار في شارع مكتظ وسط باريس أول من أمس، مودياً بحياة ثلاثة من المارّة، ومصيباً آخرين بجراح متفاوتة الخطورة، قبل السيطرة عليه. وفي نقل مباشر لقناة إخبارية واسعة الانتشار فرنسياً ومتطرفة الموقف يمينياً ومعروفة بترويج الرهاب من الإسلام، وقبل ورود أية تفاصيل عن الحادث، علّق المذيع وضيوفه على الأخبار الأولية الواردة من المكان بالإشارة إلى أن وقوع الجريمة يوم جمعة مرتبط بأنه يوم صلاة للمسلمين، وهم يخرجون غالباً مسلّحين ومتحضّرين لأي صدام (…). وتناوب على الحديث ثلاثة من محللي القناة الأشاوس، مشيرين إلى أن مصدر استنتاجهم هذا تقارير سرّية للشرطة أُتيح لهم الاطلاع عليها. وقد قال أحدهم أيضاً إن يوم الجمعة يُشكّل قلقاً شديداً لدى رجال الشرطة، تحسّباً لوقوع عمليات إرهابية يقوم بها المسلمون بعد خروجهم من الصلاة.

لسوء حظ هذه القناة ومريديها الذين تتزايد أعدادهم مع دمقرطة العنصرية، سرعان ما تبيّن أن المجرم عامل سكك حديد فرنسي متقاعد بلغ السبعين عاماً. خرج من الاحتجاز قبل فترة قصيرة، وهو ملاحق بتهمتي اعتداء على مهاجرين في منطقتين مختلفتين في العاصمة الفرنسية. وبالتالي، استخلصت التحقيقات المبدئية أن العمل عنصري بامتياز، وأن هذا الرجل يسعى للاعتداء على الأجانب مهما كانت جنسيتهم أو دينهم أو عرقهم. ومنذ عام تقريباً، اعتدى على تجمّع لطالبي لجوء أفارقة من جنسيات مختلفة. كذلك اعتدى بساطور على لاجئين من إريتريا، مصيباً أحدهم بجروح خطرة في الفترة ذاتها. وبالتالي، من المفروض أن يكون هذا الرجل خلف القضبان نظرياً، إلا أن محاكمته مستمرّة، ما سمح له بالإفراج الشَّرطي قبل أيام. وفي الاعتداء الثالث الأخير، كان ضحاياه من المهاجرين الكرد، حيث يكثر وجودهم تاريخياً في هذا الحي، كذلك إن إطلاق النار وقع أمام مركز ثقافي كردي.

إثر وقوع الهجوم، تجمّع مئات من الشبان الكرد، تعبيراً عن حزنهم لوقوع الضحايا، وتوتر الموقف ليتحول التجمّع إلى صداماتٍ محدودة مع عناصر الشرطة التي تحيط بالمكان، تعبيراً عن احتجاجات كردية على التهاون الأمني في حماية الكرد المستهدفين. وعبّر آخرون عن استغرابهم لتزامن وقوع الحادث مع الذكرى العاشرة لحادثة اغتيال ثلاث كرديات في مقر عملهن الجمعياتي في باريس نفسها، موجهين بذلك الاتهام الى الجانب التركي، المتهم حتى يثبت العكس، على الرغم من أن الحيّ يضم جنسيات عدة يغلب عليها المكوّن الكردي والتركي.

قبل أن يصف الإعلام الفرنسي الشعبي المعتدي بأنه “مُختلٌّ عقلياً”، كما جرت العادة عندما يكون صاحب الاعتداء من غير المسلمين، استخدمت قوى الأمن ووزيرها صفة “العنصري” لوصم مرتكب هذا الاعتداء، فأُسقط في يد من كان سيصفه بالمختلّ. وبالتالي، اضطرّت وسائل الإعلام الرخيصة، ليس ثمناً، بل أداءً، أن تتبنّى العبارة الرسمية المعتمدة. وفي كل الحالات، لم يرد وصف المعتدي بأنه إرهابي من أي جهة كانت، لعدم توافر الشروط المناسبة، ربما لكونه من غير المسلمين! وبانتظار وضوح الصورة من خلال التحقيقات التي تجريها الشرطة مع المجرم، من المهم، كما هو مقلقٌ فعلاً، ملاحظة “عادية” المواقف العنصرية اليوم، كما وانتشارها بشكل واسع، وهي التي كانت تودي بصاحبها إلى المثول أمام القانون. وما كانت تتصدّى له جمعيات مدنية كما القانون منذ سنوات في مواقف من يُحسبون على اليمين المتطرّف وتصرّفاتهم، ما كان يدفع أصحابها إلى الحذر وتوخّي المناورة، صارت اليوم عبارات ومواقف عادية متداولة في بعض الخطاب الإعلامي كما في بعض الخطاب السياسي. ووجدنا، أخيراً، وبمناسبة كأس العالم في قطر، أنها غزت أيضاً بعض الخطاب الرياضي.

جرت العادة في تاريخ فرنسا الحديث على لصق تهمة العنصرية بجماعاتٍ أو أحزاب يمينية متطرّفة غالباً ما كانت معزولة نظرياً. ولكن مع التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي حصلت خلال العقود الأخيرة، ومع تعميم لغة سياسية وثقافية موازية لا يحمل أصحابها نظرياً قناعات عنصرية، صار بالإمكان الحديث عن “دمقرطة الخطاب العنصري” الذي لم يعد الولوج في أدبياته والإبحار في مساراته يُشكل أي إحراج لمعتنقيه ولمستخدميه، كما ولمتلقيه. وصار من العادي أن يهرف بعض أعضاء أحزاب اليسار، كالاشتراكيين مثلاً، أو بعض أحزاب اليمين التقليدي، كالجمهوريين مثلاً، بعباراتٍ ذات حمولةٍ عنصريةٍ واضحة، لكنها مُنمّقة الإخراج وتدغدغ ظمأ طبقات فقيرة أو متوسّطة تعاني اقتصادياً. كما ونجح الخطاب المعادي للأجانب، الذي يحمّلهم مسؤولية كل الموبقات في المجتمع، بترسيخ قناعات كاذبة في مخيال عدد واسع من أفراد هذه الطبقات، بعد أن سيطر تقريباً على مفاتيح الطبقة الموسرة.

مسؤولية هذه الجريمة وما سيتبعها من جرائم يرتكبها عنصريون متطرّفون في فرنسا تقع بالدرجة الأولى على أصحاب القرار في الحكومات المتعاقبة خلال السنوات الأخيرة التي استسهلت من جعل الأجنبي، وخصوصاً المسلم، قميص عثمان، مقاساته متنوعة تُلبس السياسات العامة العارية من النجاح ومن العمق، ثوباً هشّاً يقيها برودة الانتخابات.

مقالات ذات صلة