
أنتيكة الفقير
#أنتيكة
كانت فرحتي كبيرة جدا، فغدا أول أيام الدراسة بعد إجازة تجاوزت الستين يوما! ستون يوما كانت مليئة بالتَّعب والحصاد وما يتبعه من (تغمير) للزرع ودرس وتعبئة ل(التِّبن) وغيره الكثير من عذاب الله في الأرض!! ولأنني لا زلت حديث السِّن كنت ما بين مُكِرٍّ ومُفِرٍّ… تعال يا ولد… روح يا ولد!! حتى ضاقت بي هذه المفردة فكرهت أن أكون ولدا، وكلما عاندت أبي في شيء صكَّ على أسنانه، ضاربا الأرض بعصا لوز جلبها من (إطبال الخروبة) ولا أدرك نفسي إلا هاربا متحجِّجا بالخوف من (الكَتْلِة) متعمدا ذلك لأكون بعيدا عذاب الله!!
ثلاث ساعات… أربع ساعات… خمس ساعات، وأنا أرقبهم من بعيد، ولا أعود إلا بعد أن (تقرصني) معدتي؛ فأتسلل إلى بيت الشَّعر، بعد أن رأيت أمي تَلُوْحُ (عشا) الحصَّادين…
_ تعال خذ لك (إشراكة) وامسح وجهك في الرحمن… ليما ساعدت إخوانك؟!
_ هُوْ ما في غير أنا!! يلعن أبو الحصاد على أبو….
_ تعال… تعال كُلْ لك مُرْطة إشراك ويش أدَّك في اللَّق؟!! وعبِّي لي هالسْحَلِة مَيَّة خليني أرش عالصَّاج…
من بعيد_ والشمس متعبة كما الحصَّادين _ صوت الهجيني يصدح بين العربان:
يا يُمَّه يا ضيفنا البارح
يا يُمَّه وِشْ عذرنا مِنَّه
يحتزم أبي على (الشِّبريَّة) وقد شمَّر نصف ثوبه ووضعه داخل (الحزام) والعصا جعلها على كتفيه، وقد تدلَّت من فوقها ذراعان قويتان أتعبهما (طَرْد الصيد) ورميه وهو (جِفِيل) و (الهِيشِي) لا وانِيَ له….!
_ روِّح علي جاي يا ولد… تعال جاي…
_ ألْحِين بتكتلنيه…!
_ تعال جاي مني كاتلك… تعال جاي…
أقبلت عليه مسرعا أرتدي (شَلْحَة) أمي بلا أردان بعد أن قصَّرت منها قليلا، ولا شيء يقطع علاقة تلك الشَّلْحة بجلدي، فأنا لا أعرف لباسا غيرها!!
كان حضن أبي دافئا، وكنت بحاجة إليه…
_ بكرة عندك مدرسة؟
_ آه…
_ عشان أحلقك…
يا الله! اليوم بدي أحلق! يسعد ربنا…وصلنا أمي…وعلى حجر متوسط الحجم جلست بالقرب من (المُوْقَد)… جلب أبي (إسْحَلِة) ووضعها على رأسي!! ومن جيبه أخرج محفظة غليظة صنعها من جلد جَمَلٍ نفق (لعزَّامِيٍّ) أراد (الخليل)! ومن المحفظة أخرج نصف (شفرة)!
_ لا تتحرك عشان ما أجرحك…
_ يابه بطلت أحلق…
_ لا ودَّك تحلق… قِلْ الحِس… بكرة الستاد بكتلك…
صمتُّ ودموعي لم تتوقف وصوتي لم يخرج، لكنني أشعر بشيء ساخن يلامس رقبتي! وأبي يمسح بكُمِّه بين الفينة والأخرى…!!
انتهت المذبحة بجروح بليغة، ودماء ممزوجة ب (الكركم)، ووجبة عشاء (رز وصلصل) ابتهالا بهذه الحلاقة الدامية!!
الأسبوع الأول من الدراسة لم يخل من الضحك علينا جميعا نحن الطلبة!! إما على الحلاقة، أو على الهندام!! ولك أن تتخيل كيف يكون (شوال الخيش) زيَّا مدرسيَّا!!
الأستاذ شديد جدا ولا يعلم أننا لا نعرف ولا نعلم (التَّعريفة)!! وفي كل صباح:
_ اللي ماجاب الخمسة وثلاثين قرش النشاط الرياضي يطلع جاي…
لا حول ولا قوة إلا بالله… من وين ودي أجيب خمسة وثلاثين قرش… يلعن أبو الرياضة على أبو يومها…
كل يوم كنت أتمتم بهذه الكلمات وأنا أتحضر لملحمة المعلم… قرَّرت أن أخبر أبي في ذلك…
_ أخيَّاه منك… ليما حكيت من زمان؟!!
ومن تلك المحفظة أخرج لي قطعة حديد صدئة، عليها بعض ملامح الصور أو الرسومات…
_ بِتْرُوح لأبو جمال سند العبيد وبتقول ليه: بسلِّم عليك أبوي وبقلك أعطيني من هذي خمسة وثلاثين قرش نقد، وفي الباقي دفتر (تُومَان) ورطل سكر ووقية شاي.
في الصباح الباكر لم أكذب خبرا ولم أترك شيئا من وصية أبي…
_ يا عموه، بسلم عليك أبوي وبقلك أعطيني في (الهنتيكة) هذي خمسة وثلاثين قرش عشان ودي أدفعهن للمدرسة للنشاط الرياضي، وفي الباقي دفتر (تُومَان) ورطل سكر ووقية شاي…
لا أدري لماذا ضحك سند العبيد وهو يتفحص قطعة الحديد؟! تناول حبَّة راحة (حلقوم):
_ بسم الله… فُك الرِّيق يا ابن أخوي…
رفضتها؛ خوفا من أن تخصم من مبلغ قطعة الحديد!!
_ توكَّل على الله يا ابن أخوي…. كُلْ حبة الراحة وهاك خمسة وثلاثين قرش للنشاط الرياضي… وسلِّم على أبوك….
كانت فرحتي غامرة وأنا أقبض الخمسة وثلاثين قرشا، خاصة أنني لن أُضرب اليوم!! لكنني لمحت سند العبيد يرمي القطعة الحديدية بعيدا وهو يحوقل أكثر من مرَّة!!
من مخطوط #تراب_الجنوب
د. سالم الفقير
السبت 9 شباط 2019 م، السادسة صباحا



