جرس اليوم الأول يرن باكراً..!.. أحمد حسن الزعبي

كان بيتنا الأقرب للمدرسة، الأمر الذي اعتقدته أفضلية للخروج متأخراً من المنزل فور سماع الجرس، لم أكن أعرف أن جرس اليوم الأوّل يرنّ باكراً ،كنت أحاول فقأ العين الثانية من صحن البيض المقلي الذي وضع للتو أمامي بمشاركة أخوتي من مرتبات الصفوف الإعدادية المنهمكون في الانقضاض على باقي العيون..لكن رنّ الجرس في تمام السابعة وعشرة دقائق سألتهم بقلق وتوجّس “شو هاظ”؟؟ قالوا: جرس الطابور..ففقدت عقلي الصغير أصلاً وحاولت الالتحاق بأول فردة بالبوط..لكنّي تزحلقت بــ “منسفة” الخبز التي كانت تفصل بيني وبين درجة البيت، قالت أمي :الله يحفظك..وسمعت أحدهم قال : “عمى يعميك”، إنه ليس وقت المعاتبة الآن، فقد رنّ الجرس وأنا ابن الصف الأول الذاهب إلى المجهول، حملت بيدي حقيبتي المدرسية الجديدة المرسوم عليها “ديك” – تيمنّاً أن أصبح ديكاً في المستقبل – وتكبّدت عناء صعود “الطلعة” ، طلاب كثر يتزاحمون على الباب معظمهم “حالقين ع الصفر”، وأساتذة متجّهمون يقفون بالباب ويركلون الطلاب المتأخرين ، وثمة رسمة عند بوابة المدرسة لرجل بملابس عربية قديمة تشبه لباس أبطال فيلم الرسالة، مكتوب بجانب صورته سيرته الذاتية عرفت فيما بعد انه “محي الدين بن عربي” الذي سمّيت المدرسة باسمه، نزلت على الدرج المكسّر بأمر من الآذن الطويل المتجّهم أيضاَ..وعندما تهت بين الطلاب المصطفين في الطابور سألت أحد المعلّمين .. وين أروح ؟ قال لي : ” تع خش في…” عرفت فيما بعد انه الآذن الثاني ، ارتبكت ووقفت متسمّراً قرب سارية العلم فبادرني معلم لطيف بجملة إرشادية لا أنساها: “صف هناك يا حمار” ، التحقت بأخر سطر بالمصطّفين..بدأ المدير يلقي كلمة ترحيبية بالطلاب في العام الجديد لا اذكر منها شيئاً سوى انه حذّرنا أن “نتبوّل” تحت الدرج تحت طائلة المسؤولية..تجاهلت كلام المدير عندما كان وراءي في الصف الموازي طفل قصير أقرع يبكي بشدّة ويخرج من انفه فقاعات شفافة من فرط البكاء..كنت أعد الفقاعات التي تكبّر ثم تنفجر إلى أن داهمني كفّ لا لون له من معلّم مناوب طالباً مني أن استمع لكلمة المدير الهامة – حسب تعبيره- وهذه أول محاولة لتجرّع النفاق الممنهج..جاء وقت رفع العلم ، ما زلت أذكر وجود (عقدة) بارزة في الحبل الرفيع كانت تحول دون رفع العلم بشكل سويّ إلى نهاية السارية لم يحّلها كل الذين تناوبوا على إدارة المدرسة طيلة سنوات دراستي ..دخلنا الصف الأول ومعي حقيبة “الديك” فعلّمونا جرعة النفاق الثانية بأن نردّ على المعلم إذا ما قال صباح الخير أن نقول له: صباح النور، يا عصفور ياللي مفتحّ ع البنور..لم استسغ هذا الترحيب الممجوج ، باختصار لأني أول مرة أرى عصفوراً له “لغلوغ”..!! على أية حال..بعد أربعة عقود من العمر عرفت أن اليوم الأول في التعلّم بدأ ولم ينتهِ بعد..فكلما انتبهت إلى بكاء الخائف والفقير خلفي داهمني كفّ لا لون له يطلب مني أن انظر أمامي..كما أن العلم المصلوب على السارية ما زال عاجزاً أن يرتفع عالياً كما كنّا نتمنى لوجود ذات العقدة التي لم تُحلّ بعد..

مقالات ذات صلة