منصّات التواصل تحت ركام الزلزال

ياسر أبو هلالة

حرير- يُحاور المنقذ طفلةً تحت الركام ويصوّرها. ربما أراد تهدئة روعها وشقيقتها، وربما أراد للفيديو الذي يصوّره أن يحقق أعلى نسبة مشاهدة، ليتحرّك العالم بسرعة لإنقاذ الأطفال والبشر من تحت الأنقاض. تقول له الطفلة مستغيثة “طالعني وبشتغل عندك خدّامة طول عمري”. انتشر الفيديو بصورة فيروسية، وحقّق هدفه ولو على حساب براءة الطفولة.

فيديو آخر يُتداول لمذيع مصري اسمه خالد رفعت، يتبنّى، بحماسٍ وغباء منقطعي النظير، نظرية مؤامرة تدعى HARP، تتهم الأميركان بالوقوف وراء الكوارث الطبيعية. وانتشر حسابٌ لمنجّم هولندي تنبأ بالزلزال وفق نظرية تربطه بحركة الكواكب. .. وعلى مدار الساعة، لا يتوقف سيل الفيديوهات الجارف الذي يصعب فيه استخراج إبرة المعلومة من كومة قشّ التضليل. والمتلقّون يتحمّسون لإعادة نشر ما يصل إليهم من دون تدقيق.

هل كان العالم أفضل بدون منصّات التواصل الاجتماعي، فلا نشاهد كل هذا الغثاء والهراء الذي يفاقم المأساة؟ أحاول الإجابة من خلال معايشتي قبل عقدين زلزال بنغول في تركيا عام 2003… كنت في أنقرة. احتاج الأمر أن أتحرّك مع فريق من مصوّر ومنتج وسائق، وبعد وصولنا، كان الأصعب هو البثّ. لا أنسى حواري مع مسؤول التبادل الإخباري في قناة الجزيرة وقتها مع أي شركة بثّ نتعاقد لبث دقائق من تصويرنا والظهور المباشر على النشرات. فوق ذلك، كان المحرّر يدقق في كل حرف وصورة. ولم أكن أتخيّل أن هذه العمل المؤسسي سيكون تحت تصرف فرد لا يمتلك أدنى الشروط الصحافية. تماما كما تُدخل أميا إلى غرفة عمليات قلب، وتسلمه مبضع الطبيب.

يجسّد الفيديو معضلة منصّات التواصل التي كانت، في البداية، رافدا لوسائل الإعلام، ثم صارت عبئا عليها. ظل امتلاك كاميرا فيديو وبثّ منتجاتها حكرا على الدول أو الشركات الصحافية الكبرى، وهي تتحمّل مسؤولية ما يُصوّر وما يُبثّ. وظل التنافس مفتوحا بين الصحافيين، أيهم يفوز بالسبق في الوصول إلى الخبر ومعالجته بعمق يظهر ثقافة الصحافي وتمكّنه وفوق ذلك قدرات المحرر التي لا تقل إن لم تزد، فمهما تواضعت قدرات الصحافي، يظلّ المحرر قادرا على تطبيق معايير التحرير الصارمة، وإيصالها إلى المشاهد أو القارئ مستوفية الشروط وصالحة للنشر. ومهما علت قدرة “المواطن الصحافي” يفوته الكثير من شروط العمل الصحافي، وتصل مادّته إلى المشاهد غير صالحة للاستهلاك.

الصحافيون المحترفون مساءَلون أمام مؤسّساتهم وأمام القوانين. بعدها بثلاثة أعوام، تكرّر الأمر في مجزرة قانا في أثناء حرب تموز في لبنان في العام 2006. كان فريقنا من “الجزيرة” أول الواصلين إلى موقع المجزرة، لم تظهر الصور على الهواء كما هي، سبقها نقاش: هل ينسجم بثّها مع ميثاق الشرف الصحافي ومدوّنة السلوك المهني؟ بعد النقاش، لم تُبثّ كل الصور، واختيرت بعناية.

بعد بثّ صور مجزرة قانا على “الجزيرة” أتاح لي “النت” وقتها نشر تدوينةٍ على مدوّنات “مكتوب”. وكان مؤسس “مكتوب”، سميح طوقان، قد اختارني أول مدوّن في مشروعه الريادي الذي انتهى بعد بيع “مكتوب” لشركة ياهو. ومن محاسن “النت” في زمنه الجميل أن التعليقات تدخلك على مدونة المعلق على مدونتك، وهو ما يقيم تفاعلا بناءً. فوجئت بتعليق من المدوّنة السعودية الراحلة هديل الحضيف على ما كتبت، تتساءَل عن تأثير صور المجزرة والضحايا الأطفال على المشاهدين الأطفال، سيما إن “الجزيرة” تبث 24 ساعة. توقعت يومها أن الاستقطاب الطائفي هو دافعها إلى التعليق نكاية بحزب الله وجمهوره، ولكني وجدتُ في مدوّنتها موقفا نبيلا معاديا للصهيونية بعيدا تماما عن الطائفية. وتعرّفت، في مدوّنتها “باب الجنة”، إلى مدوّنين ومدوّنات سعوديين وعرب، يشكل الفضاء الافتراضي منتدىً راقيا لتفاعلهم الفكري والثقافي. بعدها بعام، ظهرت منصّات التواصل، وكانت هديل من أوائل الصداقات على “فيسبوك”، قبل أن ترحل عن دنيانا في 2008، في عمر 25 عاما، قبل أن تشهد انحدار العالم الافتراضي إلى درجة استنطاق الأطفال تحت الردم!

حتى العام 2006، لم يكن قد ظهر عالم “post truth” (ما بعد الحقيقة) الذي تحلّ فيه الإشاعات والأكاذيب ونظريات المؤامرة مكان الحقائق والوقائع، وهو مصطلحٌ دخل قاموس أكسفورد عام 2017، بعد نجاح ترامب وما رافقه من تسونامي الأكاذيب، اعتمادا على منصّات التواصل. بعدها بنحو عقد، شكّلت الترامبية القاع الذي انحدرت إليه المنصّات، اعتمد في وصوله على الأكاذيب واستمر بها. وفي عددها الصادر أخيرا، يكتب الكاتب لويس ميناند في مجلة نيويوركر في مقال عنوانه “عندما فقد الأميركيون إيمانهم بالأخبار”: “قبل نصف قرن، قال معظم الجمهور إنهم يثقون في وسائل الإعلام الإخبارية. اليوم، معظمهم لا يؤمنون بذلك”. وبحسب الكاتب الذي حصل على جائزة بوليتزر للكتاب، واعتبر كتابه “العالم الحر: الفكر والفن في الحرب الباردة” ضمن مراجعات “نيويورك تايمز” كتاب العام، فإن الصحافة لم تُقمع في سنوات ترامب “بقدر ما فقدت صدقيتها، على الأقل بين مؤيدي ترامب، وقد نجح ذلك أيضًا. كانت رقابة بوسائل أخرى. في عام 1976، حتى بعد حرب فيتنام وفضيحة ووترغيت، قال 72% من الجمهور إنهم يثقون في وسائل الإعلام الإخبارية. اليوم، الرقم هو 34%. وبين الجمهوريين، تبلغ هذه النسبة 14%”.

وعندما كشفت صحيفة واشنطن بوست عن شعار “الديمقراطية تموت في الظلام” في 17 فبراير/ شباط 2017 ، سخر الناس في مجال الأخبار منه. قال المحرّر التنفيذي لصحيفة نيويورك تايمز، دين باكيه، “يبدو مثل فيلم باتمان القادم”. ولكن كان من الواضح بالفعل، بعد أقلّ من شهر من إدارة ترامب، أن تدمير مصداقية الصحافة السائدة كان من أولويات البيت الأبيض. وتابعت الصحيفة رصد الأكاذيب. حسبت الصحيفة، في نهاية فترة ولايته، كان الرئيس قد كذب 30573 مرّة. وخلص الكاتب إلى إن “قوة الصحافة، كما هي، مثل قوة العلماء الأكاديميين والباحثين العلميين وقضاة المحكمة العليا. إنها ليست مدعومة بالقوة. إنها تقوم على الإيمان: الإيمان بأن هذه مجموعاتٌ من الناس مكرّسة لمتابعة الحقيقة من دون خوف أو محاباة. بمجرّد أن يتنصّلوا من هذه الوظيفة، سيتم إدراكهم بالطريقة التي يُنظر بها إلى أي شخص آخر الآن، على أنهم يدورون من أجل تحقيق مكاسب أو مكانة”. ما قلّل من ضرر عالم ما بعد الحقيقة في الغرب وجود صناعة صحافية متطوّرة، وجريئة قادرة على كسب ثقة جزء كبير من الجمهور.

يتحدّث الكاتب في البلد الذي ولدت فيه الصحافة، وصارت صناعة تدرّ المليارات، وأُسّست فيه أول كلية صحافة في العالم، ففي عالمنا العربي، بالكاد تجد فيه صناعة صحافيةً مهنية تحظى بثقة الجمهور. كما كشف الزلزال في سورية وتركيا هشاشة الأبنية، اتّضحت عيوب منصّات التواصل في نشر أمراض الشهرة والتظاهر والجهل والأكاذيب والبغضاء والغثاء والهراء. نحتاج أبنية صلبة قادرة على الصمود في وجه ذلك كله، وهذه مهمة الصحافة الأساسية هذه الأيام.

لعلّ الصحافة هي المصفاة الأولى التي تحمي المتلقّي من التضليل، فهي مصدر الخبر الدقيق المحرّر والمهني والتحليل الموضوعي، وفوق ذلك يتمتع بجماليات النص والصورة. وقد أضيفت مهمّة جديدة للصحافة، وهي “التحقّق” التي تخصّص فيها صحافيون، وأُفردت لها منصّات. وعلى رغم قتامة المشهد وانتشار التضليل، أظهر استطلاع المؤشر العربي 2022 أن نسبة من يثقون بأخبار المؤسسات الصحافية والصحافيين 48% مقابل 32% يثقون بمشاهير المنصّات. وفي دراسة لمعهد رويترز في 2020، ظهر عالميا، وبعد كوفيد 19، أن الثقة بالمؤسسات الصحافية زادت على حساب المنصّات.

ذلك وغيره غير كاف، ما شهده الكونغرس من نقاشاتٍ بعد شهادة نائبة مارك زوكربيرغ أظهر الحاجة الماسّة لتشريعاتٍ تضبط المنصّات، فبحسب الشهادة، تحولت الخوارزمية إلى شيطانٍ يشجّع الكراهية والانقسام والشره الغرائزي .. وكذلك كله يتحول إلى مليارات في جيوب الشركات وخسارة كبرى للإنسان، طفلا ومراهقا وراشدا. لو فُرضت غراماتٌ على الشركات التي تخالف الأخلاقيات، لوظفت جزءا من أرباحها لتمكين الذكاء الآلي والبشري من حماية المستهلك. وهذا سهل وممكن، عندما اكتشف العالم استباحة “داعش” المنصّات، وضع ضوابط حظرتها تماما. وصهيونية ميتا المالكة “فيسبوك” و”إنستغرام” و”واتساب” فرضت عقوبات على صفحتي، بسبب نشر صورة للشيخ أحمد ياسين في ذكرى استشهاده. مع أن الإرهاب هو في قتل الشيخ المقعد على أرض محتلة وفق القانون الدولي، لكن قانون مارك زوكربيرغ غالب. لو طبقت المعايير ذاتها في ملاحقة إرهاب “داعش” أو التعاطف مع الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، لتحوّلت الخوارزمية إلى ملاك حارس لا إلى شيطان رجيم. لا بناء بدون هدم، ما تهدّم من منصات التواصل يمكن إعادة بنائه وفق النموذج الذي بدأ فيه “النت”، منتديات ومدونات ومنصات للتنوير لا التجهيل، والتعارف والتآلف لا الكراهية والتخلف، حماية للضحايا لا استباحتهم.

مقالات ذات صلة