ماذا يمكن أن نستفيد من عالمٍ متعدّد الأقطاب؟

حسان الأسود

حرير- من جديد، وبعد أن ظنّ كثيرون أنّ الديمقراطية الليبرالية بشكلها الأحدث قد انتصرت مرّة وإلى الأبد على جميع الأشكال الأخرى للأطر الناظمة للعلاقات البشرية، نشهد وبوتيرة متسارعة تشكّل نظامٍ دولي متعدّد الأقطاب، تظهر فيه هزالة الطرح الذي اختزل العالم بأميركا وأوروبا الغربية، أو بالأحرى بقيادتهما المرحلة المعاصرة من تاريخ البشرية. تكثّف مقولة “الضفدع وليس الأسد ملك الغابة والبراري بعيون الذباب” واقع الاهتمام البشري بالمحسوس بشكل دقيق، فالآسيويون، من صينيين وكوريين وفيتناميين وفيليبينيين وغيرهم، ينظرون إلى اليابان باعتبارها من تمثّل النازيّة والفاشيّة، وليس إلى ألمانيا أو إيطاليا! هكذا يمكن لنا مقاربة الأمور أفريقيًا على سبيل المثال، ففرنسا هي المستعمر الأكثر بشاعة وجشعًا لدى غالبية شعوب القارّة، ومحاولات التمدّد العسكري والأمني الروسي، والتمدّد الاقتصادي التجاري الصيني والتركي أيضًا لا تزال محلّ جدل على اعتبارها تأخذ بالاعتبار بعض مصالح هذه الدول، أو بالأحرى أنظمة الحكم فيها، ضمن إطار المنافسة الاستعمارية بكل تأكيد.

في مقارنة بين النازيّة والفاشيّة بشكلهما الأوروبي، مع العنصرية القومية اليابانية بدايات القرن الماضي وأواسطه، نجد هذه النظرة التسطيحية للعالم كما روّجها الإعلام الغربي ثلاثة أرباع القرن، فمنطقتنا العربية، على سبيل المثال، تعرف الكثير عن النازية والفاشية واندحارهما من خلال الضخّ الإعلامي الهائل للغرب عبر السينما والبرامج التلفزيونية والإذاعية، وحتى عبر البحوث والدراسات الأكاديمية، بينما لا يكاد أهلها يعرفون ما صنع اليابانيون بشعوب شرق آسيا قبل هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية. كذلك روّج الإعلام الغربي قيم الديمقراطية الليبرالية بمفهومهما الغربي مقابل التشنيع بالمبادئ التي قامت عليها المنظومة الاشتراكية، وبينما تلقفت الأنظمة الملكية العربية هذا الموقف، انطلاقًا من ارتباط غالبيتها بالدول الغربية، بل وساهمت فيه بحماسة، خصوصًا خلال فترة حرب إخراج الاتحاد السوفييتي من أفغانستان، كان موقف الحكومات الجمهورية أقرب إلى التشكيك بهذه القيم واعتبارها ضمن الموجة الاستعمارية الجديدة. هكذا أخذ كل نظام حكمٍ بما يراه داعمًا لأيديولوجيته التي من خلالها مارس خطابه على رعاياه، وهكذا ساهمت الأنظمة بالاصطفاف خلف هذا المعسكر أو ذاك لمقتضيات مصالحها الخاصة، لا حبًّا بالديمقراطية والليبرالية والاشتراكية، ولا كرهًا بها.

من هنا، وحين هبّت الثورة في تونس، لم يكن لدى الشعب التونسي خوفٌ من جيشه الوطني، أو هكذا شعر التونسيون وهكذا تصرّف الجيش. كذلك كان لدى المصريين راحة ضميرٍ من نوعٍ ما، مطمئنة، ومُحقّة في الوقت نفسه، تجاه جيش بلادهم، فتاريخه أولًا، وتداخل مؤسّساته في كيان الدولة وانغماس قادته في الحكم بشكل مباشر ثانيًا، جعلا من المستحيل عليه الغوص بشكل مباشر وفجّ في عمليات قمع الثوار. على العكس، كان الشعب الليبي متأكّدًا من انعدام قوة الجيش في مواجهة كتائب القذافي المسلّحة، فكان من الواضح أنّ الرهان على التدخّل الخارجي قد شكّل جزءًا من مطالب بعض الليبيين لمنع وقوع المذبحة. أمّا في سورية، فقد كان بشّار الأسد مطمئنًا بشكل لا يوصف لاستحالة امتداد الثورة إلى البلاد، ولم يكن موقفه مستندًا إلى تقديراتٍ خاطئة، فهذا النظام الأمني المتحكّم بكل شاردة وواردة في الدولة والمجتمع، كان قادرًا على قياس حجم الرعب الذي زرعه في قلوب السوريين على مدار نصف قرن من العسف والاستعباد، لكنّه أخطأ في تقدير حجم التأثير المعنوي الهائل الذي أتى به ربيع الشعوب العربية. هذا الربيع الذي جاء بشكلٍ ما ضمن سياقٍ إنساني ممتدٍ ومتسلسل زمنيًا وجغرافيًا منذ لحظة انهيار جدار برلين وحتى لحظة انهيار جدار الخوف العربي بعد 30 عامًا.

ماذا تعني مجدّدًا ولادة عالم متعدّد الأقطاب لمنطقتنا العربية ولشعوبها؟ هل في ذلك إعادة لتوازن القوى والمصالح، وبالتالي، هل هناك أملٌ في أن يغيّر التدافع الدولي من نظرة أنظمة الحكم إلى شعوبها؟ هل يمكن الحديث مثلًا عن تطوّر في مفاهيم الحكم بعد أن أثبتت التجارب أنّ الانفصال بين الشعوب وأنظمة الحكم لا يجرّ إلا الخراب على البلاد؟ أم أنّ النماذج المطروحة بدائل للديمقراطية الليبرالية بنموذجها الغربي لا يمكن أن تقدّم شيئًا أفضل لشعوب المنطقة؟ وهل يصلح الانفتاح الاقتصادي الصيني، مثلًا، نموذجًا تحتذي به بعض أنظمة الحكم العربية بديلًا عن النموذج الغربي؟ هل يمكن مقارنة سيطرة الحزب الشيوعي الحاكم وقادته السياسيين، ومن بعدهم الأمنيين والعسكريين، وهم الطبقة الأرستقراطية الفعلية، مع سيطرة العائلات الحاكمة في الملكيات العربية؟ هل يمكن أن تكون مقاربة “أرنبٌ سعيدٌ خيرٌ من سبعٍ حزين” ممكنة ومعقولة لإرضاء شعوب المنطقة العربية التوّاقة للكرامة الفردية والجماعية وللحرية السياسية قبل الاجتماعية قبل التوق للخبز وإشباع الغرائز؟

ثمّة انقطاعٌ تاريخي بين قيم الحداثة التي وصلت إلينا من دون أن نساهم في صياغتها وبناء أسسها وبين واقعنا الراهن. هناك فرق كبير بين قدرتنا على استيعاب أحدث منجزات العلم والتقنية، واستخدامها في حياتنا اليومية، وبين هضم واستيعاب موجبات حصولها. لقد جاءت منتجات الحضارة الراهنة نتيجة تلاقح وتصارع مجموعات هائلة من العلوم والآداب والفنون والقيم والنظريات والمفاهيم التي نمت وتطوّرت في بيئةٍ مناسبةٍ وتربةٍ خصبة قابلة للاستثمار، فمفهوم المواطنة المتساوية مثلًا لا يمكن اختزاله بنصّ دستوري أو بقانونٍ من هنا وآخر من هناك، بل هو نتاج صراعٍ مرير امتدّ قرونًا للخروج بالإنسان من مرحلة الشيء إلى الرعية إلى المواطن إلى المواطن الفاعل المشارك. شمل هذا السياق التاريخي جملة هائلة من التغيرات في بنية المجتمعات التي أنتجته، بينما أتانا جاهزًا ومنفصلًا عن سياقه. وفي النهاية، يبدو النموذجان الصيني والروسي أقرب إلى واقعنا الراهن، من حيثُ تمثّل القيم سلطويًا والاستعداد لتقبّل التغيير مجتمعيًا، وأن تأتي متأخرًا خيرٌ من ألا تأتي وإن كان كلاهما صعب المنال عربيًا.

مقالات ذات صلة