من دوار إلى دوار: مشاهدات من اعتصام المعلمين

حرير – نهار استثنائي عاشته شوارع عمان والعَمّانيون عمومًا، يوم أمس الخميس، 5 أيلول، وربما اعتقد كل واحد منا أن أزمة المرور تخص منطقته، وأن الآخرين بمنآى عنها، غير أنه من المتوقع أن لا أحد في العاصمة لم يتأثر بصورة أو بأخرى بالإجراءات الأمنية التي اتخذت للحيلولة دون وصول المعلمين إلى ما أصبح اسمه «الرابع»، وهو تلك الساحة الواقعة مقابل مستشفى الأردن على بعد مئات الأمتار من الدوار الرابع حيث يقع مبنى رئاسة الوزراء.

كان المعلمون أعلنوا منذ أكثر من أسبوع نيتهم الاعتصام في تلك الساحة لساعتين ابتداءً من الثانية عشرة ظهرًا للمطالبة بعلاوة مالية على رواتبهم. لكن الحكومة قالت يوم الأربعاء إنها توافق على إقامة الاعتصام أمام مجلس النواب لأن الموقع الذي اختاره المعلمون يقع في منطقة مرورية صعبة.

غير أن ما حصل أن أهم الشوارع والتقاطعات الرئيسية الموصلة إلى الدوار الرابع، وإلى ساحة الرابع، جرى وقف السير فيها، وهو ما أدى إلى أزمات مرور في شتى المواقع، فقد توقف المعلمون عند النقاط التي تمكنوا من الوصول إليها وتحول اعتصامهم الموحد إلى ما لا يقل عن خمسة اعتصامات موزعة على الطرق المؤدية إلى الرابع، وقد تمكن عدد قليل نسبيًا (مئات) من الوصول فعلا إلى ساحة الرابع، وهم الفئة التي تعرضت لأشد حالات القمع، لأن الحكومة اعتبرت هذه النقطة تحديًا رئيسيًا.

إلى جانب ذلك كان المعلمون يتناقلون أخبار أزمات المرور الأخرى التي تشكلت في الطريق إلى عمان من مختلف المناطق شرقا وغربا وشمالًا وجنوبًا، وعلى مخارج المدن الرئيسية: إربد والمفرق وجرش وعجلون والزرقاء والكرك والطفيلة ومعان والأغوار والبادية الشمالية والجنوبية.

ما رأيته وسمعته

قبل الثانية عشرة بزمن كافٍ، تحركتُ من منطقة طبربور بقصد الوصول إلى دوار الداخلية، ظهر لي بسرعة أن الطريق صعب، فأجريت التفافًا واتخذت طريقي من ضاحية الأمير حسن باتجاه شارع الأردن. وقبل الوصول كان الشارع يشهد اكتظاظًا، فتوقفت، وقررت المشي على الأقدام نحو دوار الداخلية مخترقًا منطقة عرجان. كان طلاب المدارس الحكومية قد غادروا وانتشروا أو جلسوا على أبواب المدارس ينتظرون أهاليهم. في الطريق توجد مدرسة خاصة كبرى، كان الدوام اعتياديًا كما يبدو.

مع الاقتراب أكثر، اتضح أن كل المداخل باتجاه شارع الاستقلال مغلقة، ويطلب من السائقين البحث عن طرق أخرى، كانت مجموعات من المعلمين يسرعون باتجاه الدوار، وبالتدريج بدأ يظهر تجمع المعلمين على بعد مئة متر تقريبًا من الدوار باتجاه الشميساني.

تشكّل هذا التجمع الفرعي من أكثر من ألفي معلم ومعلمة، وسوف يتضح بسرعة أن أغلبهم من معلمي شرق عمان والزرقاء والمفرق واربد، توجد كتلة كبرى من المشاركين تقف ملاصقة تمامًا لحاجز مكون من أكثر من صف من رجال الأمن يقطعون كامل الطريق.

إن لتحركات المعلمين خصوصيتها التي ترافقها منذ عام 2010 عندما بدأوا تحركهم لأجل إقامة نقابتهم. على العموم هناك تهذيب فردي وجماعي تفرضه المهنة والمستوى الثقافي، فبعد أن ظهر أن الأمن يمنع التحرك باتجاه الرابع، توزع المعلمون على مجموعات هادئة انتشرت في الساحات الفارغة حول الدوار، وخاصة تحت ظل بعض الأشجار المتوفرة. بعضهم كان يتناول بعض الطعام، بينما توفر عدد من باعة المياه في موقع الاعتصام، مع مضاعفة سعر الزجاجة.

أخذتُ «عينات» من هذه المجموعات: هؤلاء أربعة قدموا من اربد، من لواء بني كنانة، يعملون في مدرسة واحدة. سألتهم عن الطريق التي سلكوها، فقد كانت النقابة قد اتفقت مع عدد من الباصات لنقل المعلمين إلى عمان، لكن أجهزة الأمن أبلغت السائقين منذ الصباح الباكر، أن تراخيص الحركة باتجاه عمان قد ألغيت، فكان على المعلمين المصرّين على المشاركة أن يتدبروا النقل بواسطة السيارات الخاصة والباصات العمومية، لكن هذه الأخيرة جرى إيقافها وتفحُّص ركابها وإجبار المعلمين على النزول وحجز بطاقاتهم الشخصية. يقول الأربعة الذين التقيتهم إنهم استخدموا سيارة خاصة، وبعد توقيفهم في الطريق، استجابوا شكليًا ولكنهم بحثوا عن طريق زراعي أوصلتهم إلى طريق الزرقاء، ثم تعرضوا لعدة مرات من التوقيف، واضطروا لإنكار وظيفتهم. أحد المعلمين قال لي إنه أكد لرجال الأمن أنه يعمل إمامًا في مسجد.

استأذنتهم بالسؤال عن سنوات خدمتهم ورواتبهم، أحدهم يعمل منذ 23 سنة براتب 530 دينارًا، بينما يبلغ راتب زميله الذي يخدم منذ 13 عاما 470 دينارًا. يقولون إن علاوة المعلم السنوية تراوح حول أربع دنانير.

الكتلة الأمامية من المعتصمين يتولون الهتاف. هناك حركة في المواقع، فيتقدم بعضهم ثم يتأخر فريق، ويجرون نقاشات فرعية مع رجال الأمن الذين اعتادوا على قلة الردود. حصلت بعض الاحتكاكات والتدافع عندما يحاول المعلمون التقدم ولكنها محاولات تخلو من الإصرار والشدة.

كادحون ومهذبون

الملمح العام لكافة المعلمين هو الكدح، يظهر ذلك من خلال تواضع نوع الملابس وحالتها العامة. ربما يعود جزء من ذلك إلى إرهاق الطريق، لكنهم يظهرون بكامل تهذيبهم عند الحوار فيما بينهم أو مع الآخرين مثلي.

عدد المعلمات المشاركات أقل من المعلمين الذكور بشكل واضح، لكنه يبقى من أعلى مشاركاتهن في احتجاجات المعلمين. غير أنهن ظهرن أكثر حزنا وأسى، سألت بعضهن الأسئلة ذاتها، تحدثن بألم عن المشهد الجاري أمامهن.

في هذه الأثناء مر عدة طلاب صغار يرتدون ملابس المرحلة الأساسية. استوقفْتهم وسألتُهم عن سبب مرورهم هنا وإن كانوا يعرفون ما الذي يجري حولهم، قالوا إنهم اضطروا للعودة مشيًا، ولكنهم يعرفون ما الذي يجري وأن معلميهم شرحوا لهم، وسألتهم عن رأيهم قال أحدهم: «معهم حق، لازم يعطوهم، ليش بيعطوا الفاسدين؟». من الواضح أن إجابته تشير إلى صنف الثقافة السمعية التي يتعرض لها هذا الجيل.

في حوالي الثانية ظهرًا، قررت الانتقال نحو الدوار الرابع من طرق جانبية مشيًا. كانوا في «الداخلية» يتداولون خبرًا عن اعتصام مئات ممن استطاعوا الوصول إلى ساحة الرابع. في الطريق وجدت عدة مجموعات قادمة بالعكس نحو دوار الداخلية، استوقفت مجموعتين منهم، الأولى من معلمي محافظة المفرق والثانية من جرش، كانوا مندفعين للكلام بعد أن سألوني إذا كنت مستعدًا للاستماع! المعلمون من مجموعة المفرق عانوا منذ لحظة خروجهم، فقد أوقفت الباصات العمومية، ابتداء من تقاطع يقع إلى الشرق من المفرق في البادية الشمالية اسمه «تقاطع الرفاعيات». وقد مُنِع معلمو البادية، وفي بعض المدارس منع المعلمون من مغادرة مدارسهم، غير أن بعضهم أصر على الوصول بمناورات عدة على الطريق. أبلغوني أن اعتصام الرابع وُوجه بقوة، وأن التجمع الأكبر هو الآن على الدوار الخامس، فواصلت طريقي عبر شوارع الشميساني نحو «الخامس».

أغلب المعلمين الذين التقيتهم أكدوا أنهم وباقي زملائهم يعملون عملًا آخر بعد الدوام، أحدهم يعمل على بسطة لبيع القهوة، آخر يعمل سائق تاكسي، ثالثٌ أحسن حظًا يعمل سمسارًا في مكتب عقاري، معلم وحيد قال لي إنه لا يعمل إضافيًا لأنه ينفق مما ورثه عن والده، مستخدمًا «الحكمة» التي أصبحت شهيرة والتي تقول: «إن الأموات ينفقون على الأحياء».

استرسل بعض المعلمين في شرح الصعوبات التي لا تتوقف عند تدني الراتب وتصل إلى مجمل الوضع غير الكريم الذي يعيشه المعلم في مدرسته وفي مجتمعه. أحد المعلمين القادم من قرية تقع قرب وادي السير أكد لي أنه بعد عودته إلى بيته لا يستطيع تدريس أبنائه، لأنه يكون قد وصل لحالة إشباع في التعامل مع التعليم والأسئلة.

وصلت لـ«الخامس»، وبالفعل، يوجد هنا تجمع كبير يقدر بأكثر من أربعة آلاف رغم أني لم أصل وقت ذروته. هنا يجتمع المعلمون القادمون من مناطق غرب عمان ووادي السير والأغوار ومَن وصل من مناطق الجنوب، قابلت مجموعة من معلمي معان قالوا لي إنهم تحركوا بسيارة خاصة باكرًا جدًا متجاوزين الحواجز، ذلك أن مناطق الجنوب شهدت إجراءات خاصة، فقد أوقف معلمو الطفيلة والكرك ومعان قبل الوصول إلى الطريق الصحراوي، بينما أوقف كثيرون في منطقة القطرانة والحسا، مما أدى إلى قطع الطريق نهائيًا لزمن ثم سمح لهم بالمرور لكي يعاد توقيفهم على جسر مأدبا.

من الواضح في التجمعين أنه لا توجد قيادة أو إدارة موقعية واضحة للتجمعات، رغم قيادة النقابة المركزية الفعالة للتحرك، فهم في تجمعاتهم هذه يتصرفون بناءً على اقتراحات مرتجلة على ما يبدو، وعندما تسألهم فإنهم لا يدركون ما الذي يجري تمامًا. فقد تحرك معتصمو الخامس مثلًا نحو الرابع من طريق خلفي، ولكنهم استجابوا لطلب الأمن منهم العودة إلى الخامس. استمعت إلى حوارات بينهم عن قناعتهم الفعلية بضرورة عدم إعاقة السير الذي تسبب به انتقالهم ذاك.

يصعب التعرف على الدرس الذي خلص إليه المعلمون من اعتصامات الخميس، وفيما إذا كان هذا الدرس موحدًا، وهم بانتظار قرار النقابة، لكن أغلبهم يخوض تجربة الاحتجاج لأول مرة، وقد وفر الاعتصام لكل منهم فرصة النظر في عيون زملاء من خارج مدرسته ومنطقته. ولكن الأهم هو انتظار النظرات التي سيتبادلها المعلمون مع طلابهم والتي ستحددها طبيعة النتائج التي سيتوصلون إليها مع وزارتهم. غير أنه من المفارقات أن وزير التربية والتعليم كان في اللحظة التي ينعقد فيها الاعتصام يشارك في ندوة في البحر الميت حول «رأس المال البشري»! ترى هل لفت أحد انتباهه إلى أن أكبر مورد لرأس المال البشري كان يعتصم احتجاجًا على قضية تخص وزارته.

أحمد أبو خليل – حبر

مقالات ذات صلة