جنرالات الاحتلال خصوم نتنياهو: زبد يذهب جفاء؟

صبحي حديدي

حرير- للمرء أن يدع جانباً، لأغراض إنصاف دروس التاريخ بادئ ذي بدء، ما يتفوّه به اليوم جنرالات دولة الاحتلال المتقاعدون في إعلان الخلاف مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، أو التعبير عن الخصومة معه بصدد هذه أو تلك من خيارات الكيان الصهيوني السياسية والعسكرية والأمنية والدينية والأيديولوجية.

وللمرء، إياه، أن يعود 8 سنوات خلت حين تفجر نزاع لفظي، مقذع كما يصحّ القول، بين نتنياهو وإيهود باراك أحد أبرز جنرالات الاحتلال الذين انقلبوا إلى ساسة بعد التقاعد، فتصدّر لائحة رجال الدولة على امتداد عقدين، وتبوأ سدّة رئاسة الحكومة أواخر التسعينيات؛ وترأس الفريق الإسرائيلي المفاوض مع رأس النظام السوري حافظ الأسد، بواسطة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون؛ ثمّ قبل العمل كوزير للدفاع تحت رئاسة نتنياهو، سنوات 2009 وحتى 2013.

هذا عدا عن كونه الجنرال «الأكثر أوسمة» في تاريخ دولة الاحتلال، وعضو فريق الاغتيال الذي تسلل إلى بيروت في ربيع 1973 لاغتيال القادة الفلسطينيين كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار؛ وهو ذاك الذي أطلق سنة 1999، فور فوزه برئاسة الحكومة، تلك الشروط «الستراتيجية» الكبرى التي لا تترك للإسرائيلي العادي هامش ملامة واحداً ضدّ جنرال منقلب إلى سياسي متشدد: القدس ستبقى موحّدة وتحت السيادة الإسرائيلية إلى الأبد، لا عودة البتة إلى حدود 1967، لا جيش غريباً غرب نهر الأردن، وغالبية المستوطنين في «يهوذا والسامرة» سوف يواصلون الحياة في مستوطنات تحت السيادة الإسرائيلية.

ولم يظلمه عدد من المعلّقين الإسرائيليين، الأذكياء، حين اختاروا لقب Bibi-Compatible، بالنظر إلى مهاراته في «التطابق» مع برامج خصمه/ رئيسه نتنياهو، أو الالتفاف على «البرنامج الآخر» أياً كان، أو حتى مع البرنامج النقيض بصرف النظر عن طبيعة التناقض.

بالعودة إلى حزيران/ يونيو 2016، كان باراك قد قصد ضاحية هرتزليا في ظاهر تل أبيب، لإلقاء الخطاب الأعلى نبرة ضدّ نتنياهو؛ ناعتاً الأخير بصفات الجبن والانتهازية وإشاعة الخوف، محذراً من أنّ حكومته هي الجناح الأكثر يمينية في تاريخ دولة الاحتلال، وتبدي «علائم على الفاشية» وأنها إذا لم تسقط فالبلد موشك على التحوّل إلى دولة أبارتيد.

وقال باراك: «المشروع الصهيوني بأسره في خطر محدق» ومصدر ذلك الخطر الرئيسي لم يكن أعداء دولة الاحتلال الخارجيون، بل زعيمها ذاته المنتخب ديمقراطياً. يومها كان باراك/ جنرال الأوسمة المتقاعد، غاضب من قرار نتنياهو تعيين رجل غير مجرّب عسكرياً مثل أفيغدور ليبرمان وزيراً للدفاع؛ فهل كان يجهل أنّ سنوات نتنياهو المقبلة في الحكم لن تشهد تسجيل الرقم القياسي الأعلى لأي رئيس حكومة فحسب، بل كذلك خضوعه للقضاء بتهم الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة؛ وإقدامه على تسليم حقيبة الأمن إلى إرهابي مدان قضائياً مثل إيتمار بن غفير.

لكنّ باراك، الغاضب ذاته، سوف ينشقّ عن حزب «العمل» مطلع 2011 لتشكيل كتلة/ حزب جديد باسم «عتسمؤوت» بذريعة أنّ الحزب الأمّ «انزلق إلى أقصى اليسار» وأخذ يعتنق «آراء ما بعد حداثية وما بعد صهيونية»؛ وأنّ الحزب الجديد سوف يكون «صهيونياً ديمقراطياً». فهل كان باراك يتحدّث عن دولة الاحتلال التي على الأرض، حيث الاستيطان والفصل العنصري والاقتداء بالنازية؛ أم الكيان المعلّق في سماءات الاستيهام، حيث الصهيونية متجمدة عند برهة استقلال بن غوريونية، محال أن تعقبها أحقاب ما بعد صهيونية، فكيف بأخرى ما بعد حداثية؟

كان في الوسع المساجلة بأنّ انشقاق باراك صنع المسمار الأخير الذي كان نعش حزب «العمل» ينتظره، قبل التشييع إلى مقبرة السياسة في إسرائيل المعاصرة. بيد أنّ النعش كان مسجّى لتوّه أمام ناظريه، أو بالأحرى معروض على الملأ منذ التحاق شمعون بيريس بصفوف «كاديما» وهرولة باراك نفسه للانضمام إلى حكومة نتنياهو. وإذا شاء المرء توسيع المشهد كي يشمل الفصائل الأخرى ضمن ما يُسمّى «اليسار» الإسرائيلي، فإنّ حركة «ميرتس» شهدت مصائر مطابقة حين استولى عليها يوسي ساريد، فأفرغها من تسعة أعشار توجهاتها الاجتماعية ذات الطابع اليساري العلماني، وردّها إلى أسفل سافلين بصدد برامجها حول السلام مع الفلسطينيين والعرب إجمالاً.

في غمرة هذه السياقات، وكما تعوّدت شرائح واسعة في المجتمع الإسرائيلي حين تهيمن مناخات هستيرية بصدد أمن الدولة وقادتها الأمناء على مصيرها؛ كان الشارع سعيداً باكتشاف باراك بوصفه حصيلة رمزية أكثر منها حصيلة سياسية، قادرة على إشباع وجدان إسرائيلي لا يستطيع الانفكاك بسهولة عن ثقافة الحرب وهوية الحصار وهاجس الأمن.

ولم يكن مستغرباً أنّ حملته الانتخابية (التي قادها خبراء أمريكيون كانوا هم أنفسهم قادة الحملة الانتخابية الثانية للرئيس الامريكي الأسبق كلنتون) قدّمته في صورة «بطل إسرائيل» تارة، و«الجندي ـ المواطن» تارة أخرى، و«الجنرال ـ السياسي» في كلّ حال؛ ثمّ على نحو خاصّ محدد: نجم عملية اغتيال خليل الوزير (أبو جهاد) والرجل العابر إلى بيروت متخفياً في زيّ امرأة، لتصفية ثلاثة من قادة منظمة التحرير الفلسطينية.

وربما كي يطلّ برأسه ويكسر حلقات التغييب السياسي التي تسبب بها شخصياً، وتكالبت عليه موضوعياً، فأقصته عن المشهد مثلما خسفت بحزبه الأمّ «العمل» وحزبه الوليد المؤود في المهد «عتسمؤوت»؛ اختار باراك محطة CNN، والحديث بالإنكليزية، كي يفجّر قنبلة أولى خال أنها ستكون مدوية: الأنفاق التي يزعم جيش الاحتلال أنّ «حماس» أنشأتها أسفل مجمّع الشفاء، قامت ببنائها شركات إسرائيلية، بمعرفة سلطات الاحتلال استطراداً، التي كانت «تدير الوضع طوال عقود». ولأنّ القنبلة تلك أحدثت غضبة ضدّ باراك أكثر من أيّ دويّ صاخب، فقد اختار زاوية أخرى في مسعى الإطلال برأسه فاعتبر أنّ جيش الاحتلال «بعيد عن تحقيق أهداف الحرب» وأنّ وقائع 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) هي «الأخطر في تاريخ» الاحتلال لأنها شهدت «الإذلال، وعدم الكفاءة، وخلل أجهزة الدولة».

صحيح أنّ صدره مثقل بأوسمة شتى، وحين يتباهى بإنجازاته فإنه يسوق وقائع أدعى إلى دغدغة مخيّلة البطولة لدى الإسرائيلي المتوسط المصاب غالباً بعقدة حصار قلعة ماسادا؛ إلا أنّ باراك لم يبلغ شأو جنرالات إسرائيليين أمثال إيغال ألون وموشيه دايان وإسحق رابين وأرييل شارون، ولهذا انتهت خصومته مع نتنياهو إلى تنويعات بين الخلاف والمصالحة والتحالف والانحناء والرضوخ، وصولاً إلى تشكيل فقاعة ضجيج عابرة أو موجة زبد ذهبت جفاء. هو، إلى هذا وعلى سبيل إنصاف مواقعه المتقلبة المتغايرة، أكثر شطارة من أمثال غادي آيزنكوت وبيني غانتس ممّن يخالفون نتنياهو الرأي حول «اليوم التالي» للحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، ويتفقون معه في ارتكاب جرائم الحرب والإبادة والتجويع والعقاب الجماعي.

وفي كتابه «نتنياهو ضدّ الجنرالات: المعركة من أجل مستقبل إسرائيل» الصادر مؤخراً بالإنكليزية عن منشورات كمبرج، يرصد غاي زيف مستويات عديدة، بعضها لافت تماماً ومدهش أيضاً، تتبلور عندها ملفات الخلاف بين نتنياهو وجمهرة من الجنرالات العاملين أو المتقاعدين في جيش الاحتلال أو أجهزة استخبارات الموساد والشين بيت؛ وبينهم عدد غير قليل من أولئك الذي عيّنهم نتنياهو بنفسه. ولأنّ خلاصته المركزية هي تبيان الفارق بين جنرال يحرص على تقدير الأخطار والعواقب خلف المجازفة، وبين سياسي يهتمّ أوّلاً بكيفية انعكاس قراراته على صندوق الاقتراع؛ فإنّ النتيجة تبقى متماثلة، لجهة خصومات تنتهي إلى زبد يذهب، في نهاية المطاف، جفاءً.

مقالات ذات صلة