سلطنة عُمان: محاولات للفهم

بقلم مالك العثامنة/

ليس من السهل على أي كاتب أو باحث يهدف إلى البحث عن مفاتيح فهم لسلطنة عُمان أن يجد المادة بترف وافر على مواقع البحث باللغة العربية. عُمان عصية على الفهم بقدر ما هي مفتوحة وبسيطة؛ وهو ما يذكرني بمقولة بوشكين عن روسيا والتي تنطبق على عُمان حين قال: ذلك لغزها الغامض، غموض ليس فيه أسرار.

نافذتان سخيتان كانتا على الدوام عندي الوحيدتين، للإطلالة على عُمان، تلفزيونها الوطني الذي عادة ما يبث آخر الليل سمفونيات عالمية بأداء رفيع تقدمه الأوركسترا العمانية! ومجلة “نزوى” التي كانت ولا تزال من المجلات الثقافية والأدبية الرصينة والملتزمة ويترأس تحريرها الشاعر العماني الأشهر خارج السلطنة، سيف الرحبي.

سيف الرحبي نفسه الذي باح ذات لقاء صحافي معه، بأن المشكلة الأساسية في عُمان، أن تراثها الكلاسيكي والحديث تراث خلاق، لم يقرأه العرب جيدا!

رسخت السلطنة طوال سنوات طويلة فكرة أنها وسيط وليس طرفا، في أي أزمة إقليمية أو دولية
وهذا صحيح.. فعُمان المفتوحة على العالم بإطلالتها المحيطية “الهادئة”، هي ذاتها عُمان التي تطل على داخل العالم العربي بعين “عالمية” حذرة، ولعل تلك الرؤية هي التي استطاعت أن تنأى بالسلطنة العربية (بتراثها العربي القح) عن التيه في أزمات العالم العربي وتعقيداته.
وعُمان أيضا بتاريخها الحديث، خارجة عن سياق التاريخ العربي الحديث بنسخته الكلاسيكية المتعلقة بالتحرر من الاستعمار وتداعيات هذا التحرر الذي أنتج فيما أنتج أنظمة “تقدمية ثورية” لم تتقدم ولم تثر إلا على شعوبها؛ فعُمان التي كانت تحت الاحتلال البرتغالي تخلصت منه بحرب وطنية شاملة عام 1650، وعاشت استقلالها من كل احتلال أجنبي منذ ذلك الوقت وقد تخلصت من عقدة “المستعمر الغاشم” بل وكانت تبني علاقات دولية رسمية وضمن أصول البروتوكول الدبلوماسي مع أول نشأة الولايات المتحدة الأميركية.
هذا ما تيسر لي تكثيفه من مفاتيح فهم، بالإضافة إلى مخزون ثقافي كامن في العقل الباطن، كانت زوادته الأخبار وكثير من قصص بطولية عن مقاومة الاحتلال البرتغالي أتذكرها من مناهج الدراسة في ثمانينيات القرن الماضي في مدارس دولة الإمارات العربية المتحدة.

ولطالما لفتت انتباهي الأخبار من عُمان ـ على قلتها ـ خصوصا حين تظهر من حيث لا يتوقع أحد في مفصل أزمة إقليمية أو دولية، ظهورا دبلوماسيا مفاجئا وهادئا، وتختفي كما ظهرت بكل هدوء.

لقد رسخت السلطنة طوال سنوات طويلة فكرة أنها وسيط وليس طرفا، في أي أزمة إقليمية أو دولية؛ ومنذ رفضها مقاطعة مصر بعد كامب ديفيد، مرورا بالحرب العراقية ـ الإيرانية التي مارست فيها مسقط دور الوسيط بامتياز وأثبتت حينها أن الحياد عملة عُمانية لا يمكن صرافتها إلا في سلطنة عُمان. فدبلوماسية مسقط الهادئة كانت محصلة عمل هادئ ومتراكم عبر عقود وبدون ضجيج، وبهذا ربحت عُمان ميزة الحصانة من النقد ولو نسبيا؛ فإيران مثلا، وبعد زيارة نتانياهو الأخيرة لم تستطع أن تهاجم مسقط على عادتها بالهجوم الإعلامي الصارخ، بل اكتفت ببيان عادي انتقدت فيه الزيارة وصمتت أمام ذاكرة سياسية تتضمن دور عُمان كوسيط بل وفي مرحلة ما، دور عراب المحادثات الأميركية ـ الإيرانية في الملف النووي الإيراني. ولدى مسقط من حصيلة هذا الدور وحده ما يكفي من الأسرار الدبلوماسية التي تحفظ للسلطنة حق الرد في حال تمادي النقد.

لم تتعرض السلطنة لاتهامات التطبيع، فكل من يمكن أن يلقي حجرا على مسقط، يبدو أن عليه تفتيش خطاياه جيدا
المصالح التي شبكتها عُمان بهدوء أيضا وبدون ضجيج، تحميها من ردود الفعل الغوغائية في الشرق الأوسط، ومن إيران تحديدا؛ ففي آب/أغسطس عام 2013 وفي ذروة الحصار والعقوبات الاقتصادية على إيران، استطاعت مسقط أن توقع مع طهران بروتوكولا لتصدير الغاز عبر أنبوب بحري طوله 200 كيلومتر، وهو ما يدلل على إدراك السلطنة لمصالحها بدون استعراضات أكروباتية في المشهد.

حتى في الأزمة السورية، نكاد ننسى الوساطة الخاطفة لعمان في تشرين الأول/أكتوبر عام 2015، حين زار دمشق وزير خارجية عمان وعميد دبلوماسيتها يوسف بن علوي في وساطة هادئة لم تلق طريقها للنجاح آنذاك.

واختفت مسقط من المشهد.. كما ظهرت.. بكل هدوء.

يوسف بن علوي نفسه، فاجأ الإسرائيليين أنفسهم في شباط/فبراير من هذا العام، بزيارة إلى القدس الشرقية ورام الله حيث التقى محمود عباس. تلك الزيارة، التي طوتها الأحداث المتلاحقة، ربما كانت بداية الإطلالة العمانية على مشهد النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. فالوزير العماني الذي حمل معه صندوقا من “اللبان العماني” المشهور في زيارته وقد أربك فيه الأمن الإسرائيلي، وأهداه لكنيسة القيامة، دعا العرب إلى زيارة الأراضي الفلسطينية، ومع تلك الدعوة على كل ما فيها، لم تتعرض السلطنة لاتهامات التطبيع، فكل من يمكن أن يلقي حجرا على مسقط، يبدو أن عليه تفتيش خطاياه جيدا، وهي خطايا تعرفها مسقط وتحفظها بهدوئها المعتاد.
مما يحكى عن عهد والد السلطان قابوس، بأن لمدينة مسقط القديمة بابا كبيرا، وكان السلطان السابق يغلقه على أهل المدينة في سياق سياسة العزل التي انتهجها.

بعد أن تولى السلطان قابوس الحكم، فتح الأبواب، لا في المدينة وحسب، بل كل الأبواب حتى المشرعة على المحيط الهادئ، لكنه وبحكمة الحذر من الصحراء التي تتاخمه، أبقى على الأبواب ولم يخلعها.

ربما من خلف تلك الأبواب التي تفتحها عمان بهدوء، تأتينا بعض الحلول، فالسلطنة أثبتت أنها أكبر من جغرافيا سياحية خلابة.. وذلك لغزها الغامض غموضا ليس فيه أسرار.

مقالات ذات صلة