كيفَ سيُنقِذُ الغربُ بوتين؟

رانيا مصطفى

حرير- كتب وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، في 2014، مقالاً حذّر فيه أوكرانيا من الالتحاق بحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وأن عليها اتباع نهج فنلندا حينها، التي تحافظ على استقلالها وتعاونها مع الغرب، وتجنّب معاداة روسيا. ثم أطلّ الدبلوماسي الخبير، صيف العام الماضي، أي بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، بتصريحات كانت صادمة للغرب وأوكرانيا، حيث دعا حينها القيادة الأوكرانية إلى التخلّي عن أراضيها لروسيا مقابل وقف الحرب، أي ببقاء جزء من دونيتسك ولوغانسك تحت سيطرة الانفصاليين الموالين لروسيا، وأن تستمر شبه جزيرة القرم جزءاً من روسيا، كما هو الأمر عليه منذ 2014. ولم يقصُد كيسنجر، بواقعيته السياسية، تحميل الغرب مسؤولية الحرب الدائرة، بقدر ما يدعو إلى تجنّبها؛ فهو اليوم يعدّل تصريحاته، ويدعو إلى ضمّ أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، بعد بلوغ كارثة الحرب مستوياتٍ لا رجعة فيها، حيث لا جدوى من بقاء كييف محايدة. بات الجيش الروسي في حالة حرجة. وعليه، إما أن يعلن الهزيمة، ولن يفعل، أو أن يخوض حرباً انتحارية أخيرة، يحرق فيها ما تبقّى من الأراضي الأوكرانية، ويحضر فيها الخيار النووي، وما يعقّد المسألة ظهور ضعف في البنية العسكرية الروسية داخلياً، بعد ثورة زعيم شركة فاغنر يفغيني بريغوجين.

ما قبل تمرّد شركة فاغنر ليس كما بعده، رغم كونه فردياً من زعيمها، بسبب خلافاته مع المؤسّسة العسكرية الروسية الرسمية، وإحساسه بأنه ومرتزقته كانوا وقوداً في حرب أوكرانيا، خصوصاً في معركة باخموت، حيث خسر 13 ألف مقاتل، فالشركة العسكرية الخاصة، التي أنشأها بوتين، والمستقلّة عن الجيش ووزارة الدفاع الروسيين، لكنها تتلقّى الدعم المالي والسلاح منها، هي التي تقاتل بشراسة في أوكرانيا، وخسرت أكثر من 20 ألف مقاتل فيها، وهي التي تقوم على حماية المصالح الروسية في سورية وليبيا والسودان وأفريقيا الوسطى. وبالأمس، كانت على وشك توقيع عقد مع الرئيس السوري بشّار الأسد لجعل سورية قاعدة لها لتجنيد مقاتلين سوريين، كان متوقّعا أن يصل عددهم إلى 70 ألفاً، لإرسالهم إلى مناطق النفوذ الروسي في العالم، لولا أن تمرّد بريغوجين أوقف العملية وفرض تعاملاً جديداً مع مقاتلي “فاغنر”، كان في مضمون رسالةٍ نقلها نائب وزير الخارجية الروسي إلى الأسد.

تمكّن بوتين من احتواء الموقف بوساطة من صديقه وداعمه الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، الذي استقبل بريغوجين مع ثمانية آلاف مقاتل من “فاغنر”، وضمن عدم ملاحقتهم. لكن الحادثة، التي لم تستغرق أكثر من 24 ساعة لإنهائها، أدّت إلى انكشاف ضعف الجيش الروسي أمام الغرب، والبدء بطرح تساؤلاتٍ بشأن خيارات بوتين ومؤسّسته العسكرية في أوكرانيا في ظل هذا التدهور، ومنها الخيار النووي، واحتمالات انهيار الوضع الداخلي في روسيا، وقلق من حدوث فوضى في بلد نووي، وهو ما عبّر عنه الاتحاد الأوروبي في قمّة بروكسل قبل أسبوع.

ما بين تشجيع كيسنجر على المضي في توسيع حلف الناتو والخوف من انهيار أمني في روسيا يبدو المشهد مربكاً أمام الغرب. دفعت الحرب الروسية الطاحنة إلى تسريع عملية انضمام عدة دول إلى حلف شمال الأطلسي؛ ففي اجتماع الحلف في 12 من شهر يوليو/ تموز الجاري، سيحسم أمر انضمام فنلندا إلى الحلف، تليها السويد. والمفاوضات بشأن أوكرانيا قد تفضي إلى انضمامها أيضاً في نهاية هذا العام أو مطلع العام المقبل. وبالتالي، فات أوان الحديث عن تنازلاتٍ يقدّمها الغرب وأوكرانيا إلى الروس، ونضيف إلى ذلك أن بوتين وصنّاع القرار العسكري في الكرملين، ليس بمقدورهم التراجع والاعتراف بخطأهم، حتى لو أدّى الاستمرار في الحرب إلى حتمية خسارة روسيا أمام المعسكر الغربي الذي سيزيد دعمه لأوكرانيا في الأشهر المقبلة، لأن هزيمة روسيا ستعني أيضاً نهاية بوتين وقادته العسكريين في الداخل الروسي، خصوصا أنه، ومنذ توليه الحكم قبل 23 سنة، حمل بروباغندا استعادة أمجاد روسيا القيصرية، وأقام حكمه وسياساته الخارجية على أساس تحقيق هذا الطموح.

يواجه بوتين مشكلة أنه لم يستطع بناء حلف دولي يعوّل على دعمه في حربه الدولية، لم يؤيده سوى أمثال لوكاشينكو والأسد. رفضت الصين الغزو الروسي لأوكرانيا، رغم أنها تستفيد من الحصار الغربي المفروض على روسيا في الحصول على مصادر الطاقة بأسعار مخفّضة، وكذلك تركيا تحصل على الغاز الروسي بسعر مخفض مقابل تقديم تسهيلات اقتصادية لموسكو، وتستغل الموقف لمناكفة الغرب وعرقلة انضمام السويد إلى الحلف الغربي، من دون أن تختار الوقوف في صف روسيا، والسعودية والإمارات كذلك فضلتا الحياد، وحتى إيران التي تقدّم مسيّراتها لموسكو، محاصرة بدورها، وتفضّل عدم استفزاز الغرب مع تعثّر مفاوضاتها النووية.

يصعّب كل ما سبق المهمّة على الأطراف الساعية إلى إيجاد وساطات لوقف الحرب، وقد وصلت إلى مراحلها الشرسة والحاسمة؛ تقف الصين في مقدّمة من يسعى إلى تقديم المبادرات. كما تلعب تركيا دوراً وسيطاً في حلّ بعض الأزمات العالقة، مثل تمرير الحبوب والأغذية من أوكرانيا. وتعمل السعودية على خط إيجاد حلّ سياسي بين موسكو وكييف. أعطى تمرّد “فاغنر”، أخيرا، لواشنطن والاتحاد الأوروبي تحذيراً باحتمال تصدّع سياسي وعسكري في الكرملين، وأنه سيقود إلى مخاطر غير محسوبة في أوكرانيا، التي لا يرغب الغرب في فنائها، وهي على وشك الانضمام إلى حلف الناتو. هذا سيجعلهم يفكّرون جدّياً في التعاون مع الدول الوسيطة لإيجاد مخرج يضمن توسيع الحلف، ويبقي على بوتين في الحكم. فهل سيكون بمقدور عقلاء الغرب إنتاج وصفة مفاوضاتٍ سحريةٍ توقِف الحرب، وتقدّم لبوتين تنازلاتٍ شكليةً تحفظ ماء وجهه في الكرملين وعموم الرأي العام الروسي؟

مقالات ذات صلة