نتنياهو كالمستجير من الرّمضاء بالنار

مصطفى البرغوثي

حرير- لم يعد خافياً على أحد أن رئيس حكومة الاحتلال، نتنياهو، يحاول إطالة أمد العدوان الجاري على قطاع غزّة، بل يسعى إلى توسيعه، ليتحوّل إلى حربٍ إقليمية شاملة إن استطاع. ويمثّل هذا الموقف خلاصة لعاملين يتحكّمان في سلوك الحكومة الإسرائيلية المتطرّفة. يخصّ الأول نتنياهو شخصياً، وربما وزير خارجيته كذلك وقادة الجيش الذي أهين يوم 7 أكتوبر. ويدرك نتنياهو أن آخر يوم في العدوان على غزّة سيكون أول يوم لنهايته السياسية، إذ سيواجه عندها، هو وقادة الجيش ووزير جيش الاحتلال غالانت، حساباً عسيراً على أمريْن. أولاً، الفشل الماحق في 7 أكتوبر، وثانياً، فشل الحرب التي شنّوها على القطاع في تحقيق أهدافها، إذ لم يستطيعوا، كما وعدوا، اقتلاع المقاومة، ولا استرداد الأسرى بالقوة، ولا استطاعوا فرض سيطرةٍ عسكريةٍ على القطاع، وفشلوا بسبب صمود أهل غزّة وبسالتهم، في تنفيذ الهدف الرئيسي لهجومهم بتنفيذ التطهير العرقي والتهجير لسكان قطاع غزّة. غير أن نتنياهو يواجه كذلك أربع قضايا فساد يمكن لكل واحدةٍ منها أن تذهب به إلى غياهب السجون. العامل الثاني، يحرّكه اليمين العنصري الفاشي بقيادة الوزيرين سموتريتش وبن غفير الذي يسعى إلى إبادة جماعية شاملة، ليس لسكان قطاع غزّة فقط، بل للشعب الفلسطيني عموماً.

ولذلك يواصل نتنياهو محاولات تعطيل أي صفقة تبادل للأسرى مع الجانب الفلسطيني، يرافقها وقف إطلاق نار شامل. وقد تعمّد، باعتراف أعضاء وفده التفاوضي، تعطيل المفاوضات مرّة بتقليص صلاحيات الوفد المفاوض، ومرّة بتغيير التعليمات لهم، ومرّة برفض العروض المقدّمة.

وقد سبّب سلوك نتنياهو كثيراً من الحرج للحكومات الغربية الداعمة له بالمال والسلاح والدعم السياسي، خصوصاً للرئيس الأميركي بايدن الذي انحطّت سمعة إدارته إلى الحضيض، وصار على حافّة فقدان الانتخابات الرئاسية المقبلة بسبب دعمه ومشاركته في الحرب العدوانية على قطاع غزّة، وبعد أن صارت حكوماتٌ عديدة تخشى التعرّض للمحاسبة على جريمة الإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل.

وبعد أن مرّرت الولايات المتحدة قرار وقف إطلاق النار في مجلس الأمن، مع أنها حاولت تخفيف أثره بالتضليل بشأن إلزاميته، لجأ نتنياهو إلى إرتكاب ثلاث عمليات استفزاز خطيرة، آملاً أن تجرّ إلى انفجار شامل، أولها اغتيال فريق المساعدات التابع للمطبخ الدولي المركزي، وأتبعها بقصف القنصلية الايرانية في دمشق، ثم جريمة اغتيال وحشية لثلاثة من أبناء رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية مع أربعة من أطفالهم، وواصل، في الوقت نفسه، عمليات القصف الهمجي لقطاع غزّة، وهجمات جيش الاحتلال والمستوطنين في الضفة الغربية.

لا يفكر نتنياهو إلا في إنقاذ نفسه ومكانته السياسية، وهو لا يعبأ حتى بحياة الأسرى الإسرائيليين الذين لا يهمّه أن يموتوا جميعاً بالقصف الإسرائيلي، ولكنه يبدو كالمستجير من الرمضاء بالنار، فكلما طال أمد العدوان، تعاظم تأثير خمسة عوامل لا يستطيع الهروب منها.

أولاً، الخسائر البشرية الإسرائيلية، التي تجاوز حجمها ما خسرته إسرائيل في عدوانها عام 1967 وهزمت خلاله ثلاثة جيوش عربية. ثانياً، الصمود البطولي للشعب الفلسطيني في قطاع غزّة والاستعداد الأسطوري للتضحية والثبات، كما رأينا في موقف القائد إسماعيل هنيّة عندما علم باستشهاد أبنائه وأحفاده. ثالثاً، الخسائر الضخمة التي يعانيها الاقتصاد الإسرائيلي، ما أدّى إلى تخفيض التصنيف الائتماني لإسرائيل وبنوكها، بما في ذلك انهيار قطاعي السياحة والزراعة وتدهور قطاع تكنولوجيا المعلومات الذي يصدّر 50% من الصادرات الإسرائيلية، وانخفاض الصادرات العسكرية الإسرائيلية بنسبة تصل إلى 25%، بالإضافة إلى هروب استثماراتٍ كثيرة من إسرائيل وقرارات صناديق استثمار عالمية كبرى، كصندوقي الاستثمار النرويجي والأيرلندي، سحب استثماراتها من بنوك وشركات إسرائيلية كثيرة. رابعاً، التدهور الحادّ في سمعة إسرائيل وتعاظم عزلتها الدولية إلى حد أصاب بايدن وكثيرين من القادة الغربيين بالرعب والخوف على مستقبل ربيبتهم وحليفتهم الاستراتيجية. خامساً، تعاظم مظاهرات الاحتجاج التي تنظمها عائلات الأسرى الإسرائيليين، والتي اندمجت مع المظاهرات المطالبة بإقالة نتنياهو وإسقاط حكومته وإجراء إنتخابات جديدة. ويترافق ذلك كله مع اتساع مظاهرات الاحتجاج الشعبية وحركاتها في دول غربية عديدة إلى درجةٍ أجبرت بعض حكوماتها على تغيير مواقفها إلى حد منع توريد الأسلحة إلى إسرائيل، كما فعلت كندا.

دفع الشعب الفلسطيني ثمناً باهظاً لهذا العدوان، وضريبة لا مثيل لها للصمود في وجهه، بما في ذلك ما لا يقل عن أربعين ألف شهيد، منهم 16 ألف طفل وأكثر من عشرة آلاف امرأة. وما يزيد على 76 ألف جريح، يتعرّض جزء كبير منهم للاستشهاد بسبب تدمير إسرائيل المستشفيات والمرافق الطبية. ولكن المحصلة العامة تفيد بأن حكومة نتنياهو الفاشية تسير نحو مصيرها الحتمي بالفشل، مهما حاولت إطالة عمر عدوانها ومهما تمادت في جرائمها. ولن يقتصر الأمر على مصير نتنياهو وحكومته، بل سيتعدّاه إلى مصير إسرائيل نفسها نتيجة الانعطاف الفاشي لمعظم مكوّنات المجتمع الإسرائيلي، وإلى مستقبل كل ما يسمّى المجتمع الدولي، والقانون الدولي، ومواثيق حقوق الانسان.

غزّة بقعة صغيرة في عالم واسع وكبير، ولكن فعلها هزّ أركان العالم بأسره من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي ستفعله الشعوب الغاضبة على سلوك حكوماتها، خصوصاً منها التي تنكّرت لآلام الشعب الفلسطيني ومعاناته؟ وما الذي ستفعله المنظومة الدولية بعد انكشاف المستوى الخطير لازدواجية المعايير ودرجة التنكر للمبادئ والقيم الأخلاقية وحقوق الانسان التي طالما تشدّقت بها تلك المنظومة؟

لم تعد قضيّة فلسطين مسألة تخصّ الشعب الفلسطيني وحده، والتي وصفها نيلسون مانديلا بأنها قضية الضمير الإنساني الأولى في عصرنا، بل صارت، بعد جرائم الحرب الدموية في غزّة، الاختبار الأكبر للإنسانية جمعاء.

مقالات ذات صلة