ردّا على داود كتّاب: لا لمشاركة المقدسيين في انتخابات بلدية الاحتلال

نهاد أبو غوش

حرير- يعرض الزميل الكاتب داود كُتّاب في مقالاته في “العربي الجديد”، ومنابر عربية وأجنبية أخرى، جوانب غنية لحياة الفلسطينيين تحت الاحتلال، ويُسجَّل له أنه يجتهد خارج إطار الخطاب الرسمي السائد ذي الطابع الشعاراتي المكرّر، ويلتفت أكثر إلى الأبعاد الإنسانية التي تعكس نظرة رجل الشارع، من دون الابتعاد كثيرا عن التحليل السياسي المُواكِب ما يجري محليا وعالميا.

هذه المقاربة واقعية، شريطة ارتباطها بالأهداف الوطنية العامة للشعب الفلسطيني، فحياة ملايين الفلسطينيين ليست كما تُظهرها الصورة النمطية على شاشات الفضائيات، وكأنها مجرّد عمليات فدائية واغتيالات ورصاص ومواجهات. بل ثمّة مجتمع كامل وحياة اقتصادية واجتماعية، وتعليم وفنون وثقافة وأماكن ترفيه ورياضة وإسكان وخدمات وجرائم وكل ما يُميّز أي مجتمع حديث. مع ضرورة الحذر من المحاولات الإسرائيلية لمقايضة حقوق الفلسطينيين الوطنية بتسهيلات اقتصادية ومعيشية، حيث يطرح رئيس حكومة الاحتلال، نتنياهو، هذه الصيغة عبر مقولة السلام الاقتصادي، وكانت قد طرحتها حكومة بينت لبيد، بل إن أطرافا دولية وإقليمية، كالرئيس الأميركي بايدن، أقرب إلى تبنّي هذا الخيار.

وسط كل ما سبق، تعيش مدينة القدس الشرقية المحتلة واقعا فريدا ومختلفا عن غيرها من مدن الأراضي المحتلة وبلداتها في الضفة الغربية وقطاع غزّة، فقد عملت سلطات الاحتلال على ضمّها رسميا إلى إسرائيل فور احتلالها، وحلّت أمانة ( بلدية) القدس، وفرضت تطبيق القانون الإسرائيلي على المدينة، وجرى اعتماد خطط عملية لفصمها عن محيطها العربي الفلسطيني، وتهويدها، ومحو هويتها الفلسطينية، وإلغاء طابعها التاريخي العربي الإسلامي المسيحي الذي تميّزت به عبر القرون. وليست هذه الخطّة محض أفكار، بل هي برامج عملية يجرى تنفيذها بتنسيق كل أدوات الاحتلال من أجهزة حكومية، مدنية وأمنية، إلى بلدية القدس الاحتلالية، وصولا إلى جماعات المستوطنين المتطرّفين، وكل ذلك مدعوم ومغطّى من مؤسّسة تشريعية (الكنيست) تُفصّل القوانين تفصيلا على مقاسات الاحتلال، ونظام قضائي منحاز لأهداف الفصل العنصري وممارساته.

يرى داود كُتّاب في مقاله في “العربي الجديد” (25/9/2023) تسجيل قائمة عربية لخوص انتخابات بلدية القدس الموحّدة كسرا للتابوهات، وأن مبدأ المشاركة الفلسطينية في الانتخابات أصبح واقعا بعد 56 عاما من المقاطعة. ويعرض جانبا من الحقائق التي تبرّر المشاركة، ومنها أن ميزانية البلدية تفوق ميزانية كل السلطة الفلسطينية (كذلك هي ميزانية إسرائيل أكبر من ميزانية السلطة بعشرات أضعاف، فهل ذلك شهادة للاحتلال القائم على نهب موارد الشعب الفلسطيني؟)، وأن القائمة التي ستخوض الانتخابات هي من الفلسطينيين المهنيين والمتعلمين من أبناء المناطق المحتلة عام 1948 الذين يعرفون إسرائيل جيدا. أما الواقع المأساوي الذي يعرضه كُتّاب فهو أن القدس وسكّانها المقدسيين يعانون من التغييب والتجاهل من الجميع فلسطينيا وعربيا ودوليا، ليخلص إلى تجميل فكرة المشاركة، والقول إنها ساهمت في تعرية كل من زاود على المقدسيين.

إزاء إشكالية المشاركة عينها، يرتجل الكاتب حلا عجيبا، أن على السياسي “الاستمرار في المطالبة بإنهاء الاحتلال وتحرير القدس، وعلى المهتم بالأمور الحياتية العمل من أي موقع لضمان حياة كريمة تستحقّها هذه المدينة العظيمة”، ثم يؤكّد تأييده المشاركة بالقول “لا أحد يرعى المقدسيين، ويبدو أن القرار لذلك كان خوض معركة صعبة على أساس مبدأ ما بحكّ جلدك إلا ظفرك”، مستكملا ما طرحه في مقال سابق في “العربي الجديد”، 28/8/2023، أن الانتخابات العامة شأن سياسي، بينما الانتخابات البلدية شأن خدماتي خالص.

ليست الدعوة إلى “كسر التابوهات” بشأن الانتخابات البلدية فقد سبق طرحُها في كل دورة انتخابية تقريبا خلال العقود الثلاثة الماضية، وفي كل مرّة يخرج مرشّحون عرب من فلسطينيي القدس أو من فلسطينيي الداخل ليطرحوا هذه الفكرة ويزيّنوها بأن هدفها خدماتي خالص. مع ضرورة التنبيه إلى أن حقّ الاقتراع متاح لجميع المقدسيين ممن يحملون هوية القدس، بينما حقّ الترشّح محصور بحملة الجنسية الإسرائيلية ونسبتهم لا تتعدّى 4% من إجمالي المقدسيين. ومن هؤلاء الذين سبق لهم الترشّح رمضان دبش، وهو رئيس مركز جماهيري مرتبط وظيفيا ببلدية الاحتلال، والمختار زهير حمدان، وموسى عليان، وعزيز أبو سارة. وذات دورة تشكلت “قائمة” شبابية عربية بمشاركة فتاة من عائلة قليبو، لكن كل المرشّحين انسحبوا بعد أن بينت لهم هيئة العمل الوطني والأهلي في القدس خطورة ما هم مقدمون عليه.

ينطلق ما هو مطروح في المقال، وفي تبرير دعاة المشاركة (وهم قلّة قليلة جدا على كل حال)، من محاولة عزل القضية عن مجال السياسة الوطنية، وانصراف المرشّحين وأعضاء البلدية الموعودين إلى الاهتمام بقضايا الخدمات والمسائل المعيشية اليومية. ومن دون التقليل من خطورة ما تنطوي عليه المشاركة من تنازل سياسي- وطني، بما يعنيه، بحسب المرجعيات المقدسية جميعها، تسليما بشرعية ضمّ القدس الشرقية، واعتبار القدس الموحّدة عاصمة لإسرائيل، فإن الحديث عن مكاسب يمكن أن يحقّقها وجود أعضاء عرب محض أوهام في ضوء أن المشكلات الحقيقية للمقدسيين ليست من اختصاص البلدية وحدها، ناهيك عن أن الوصول إلى وضع يكون فيه تمثيل الفلسطينيين في البلدية حاسما في قراراتها ضرب من الخيال، فثمّة أدوار رئيسية لإدارات الاحتلال المختلفة من مجالس إسكان وتخطيط إلى وزارات مختلفة، كالإدارات الضريبية التابعة لوزارة المالية، وهيئات وزارات الداخلية، والتراث اليهودي، والقدس الإسرائيلية، والأمن القومي (يرأسها إيتمار بن غفير) إلى هيئات سلطة البيئة والطبيعة والآثار وشؤون الأديان، ووزارة المعارف المعنية بتزوير المناهج الفلسطينية، وصولا إلى جمعيات المستوطنين، فكل هذه الهيئات من دون استثناء تشارك في وضع خطط تفصيلية لتهويد القدس وتقليص الوجود الفلسطيني فيها.

يشكّل المقدسيون الفلسطينيون حاليا نحو 40% من مجموع سكان القدس، علما أن أكثر من 150 ألف فلسطيني باتوا يقيمون في أحياء خارج الجدار المحيط بالقدس، بسبب القيود الشديدة على البناء والسكن، فضلا عن الكلفة الباهظة جدا لتراخيص البناء وأسعار الأراضي. وثمّة مخاوف جدّية من أن مصير كل هؤلاء، وسحب هوياتهم، هو رهن قرار إداري إسرائيلي في ظل وجود خطط معلنة لتقليص نسبة الفلسطينيين إلى ما دون 15%، عبر إخراج أحياء فلسطينية كثيفة السكان وصغيرة المساحة، مثل مخيم شعفاط، وضم مستوطنات كبيرة في محيط القدس، تضم نحو 200 ألف مستوطن، مثل معاليه أدوميم وجفعات زئيف، سوف يضافون إلى 220 ألف مستوطن في القدس الشرقية حاليا.

من المهم الإشارة إلى أن الفلسطينيين المقدسيين لا يتمتعون بحقوق المواطنة في القدس، بل تمنحهم سلطات الاحتلال صفة “مقيم دائم”، وهي صفة قابلة للشطب في أي لحظة بناء على توصيات الجهات الأمنية المعنية، كما جرى مع نواب القدس الثلاثة، محمد أبو طير ومحمد عطوان ومحمد طوطح، ووزير القدس السابق خالد أبو عرفة، في 2018، فالقانون الإسرائيلي يربط حقّ الإقامة بتعريفات فضفاضة متروكة لتفسير الأجهزة الأمنية، مثل الحديث عن “علاقة خاصة” بالقدس، وأن تكون المدينة “مركز حياته”. وبالتالي، يمكن أن تُسحب من أي مقدسي تثبت إقامته في ضواحي القدس مثلا، أو في رام الله (و5 كيلومترات فقط عن حدود القدس الشمالية) الإقامة.

يقيم في القدس بضعة آلاف من فلسطينيي الداخل من طلبة وعاملين وموظفين، لكن إقامة هؤلاء مؤقتة، وغالبا يسكنون في أحياء القدس الشرقية، كما يوجد نحو ثلاثة آلاف مواطن يحملون الجنسية الإسرائيلية من الشطر الغربي لبلدة بيت صفافا التي قسّمت في العام 1948، وأعيد توحيدها في 1967. إلى هؤلاء يضاف نحو أربعة آلاف مواطن حصلوا على الجنسية الإسرائيلية بسبب الزواج أو لأسباب أخرى تتصل بالعمل والإقامة، ولكن لا يمكن النظر إليهم باعتبارهم يُعبّرون فعلا عن توجهات سكان القدس المحتلة عام 1967، والذين هم جزء من الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، وفي ظل الرفض الشعبي الواسع للمشاركة في الانتخابات.

تعارض كل المرجعيات الوطنية والدينية في القدس المشاركة في الانتخابات، والهيئات الدينية تُحرّمها وتُجرّمها، ويشمل ذلك هيئة العمل الوطني والأهلي، والمؤتمر الشعبي للقدس، والأوقاف، والهيئة الإسلامية العليا، وأبرز رجال الدين المسيحي، ووزارة شؤون القدس وملف القدس في منظمة التحرير. وخلال دورات الانتخابات البلدية السابقة كافة، لم تزد نسبة مشاركة المقدسيين عن 3%. كما أن كل القرارات الدولية التي صدرت بشأن القدس تؤكد بطلان الإجراءات الإسرائيلية فيها، بما في ذلك قرارات الضم والتوحيد وتغيير المعالم. أما بشأن أن المرشّحين ينتمون لفلسطينيي المناطق المحتلة عام 1948، فلذلك القسم من الشعب الفلسطيني مرجعياته الوطنية المعروفة، من أحزاب وقوى ولجنة متابعة عليا (93% ممن يشاركون في انتخابات الكنيست من فلسطينيي الداخل ينتخبون قوائم حزب التجمّع والجبهة الديمقراطية والحركة الإسلامية والحركة العربية للتغيير، أما من يقاطعون فهم أكثر راديكالية ويرفضون المشاركة في انتخابات الكنيست، مثل مؤيدي الجناح الشمالي للحركة الإسلامية وحركة أبناء البلد)، وكل هذه الدوائر تتبنّى الموقف الرسمي والشعبي برفض المشاركة في انتخابات بلدية الاحتلال في القدس.

أما بشأن التقصيرات الرسمية للسلطة الوطنية والفصائل والقيادات تجاه القدس فهي صحيحة ومعيبة، ولكنها لا يمكن أن تبرر التقاطع مع مشروع إسرائيلي خطير يهدّد واقع القدس ومصيرها وهويتها ومستقبلها، بل يستدعي خيارات كفاحية شعبية مغايرة لما هو سائد.

يذكّر هذا النقاش بالمبرّرات التي ساقتها قائمة نائب رئيس الحركة الإسلامية (الجنوبية) منصور عبّاس، للمشاركة في حكومة بينت لبيد، خلافا لموقف قوى فلسطينيي الداخلي، فهنا أيضا جرى التركيز على الخدمات والحقوق المعيشية على حساب الهوية الوطنية والحقوق السياسية، فكانت الخيبة المطلقة مصير هذه المشاركة البائسة.

مقالات ذات صلة