فلسطين قضية العالم

علي أنوزلا

حرير- لم تعُد قضية فلسطين وشعبها المظلوم قضية الفلسطينيين وحدهم، أو قضية العرب والمسلمين فقط، وإنما تحوّلت خلال ثلاثة أشهر إلى قضية العالم، وكل المؤشّرات اليوم تفيد بأنها القضية التي تشغل تفكير السياسيين في عواصم العالم الكبرى، وتحتلّ عناوين كبريات وسائل الإعلام في الغرب والشرق، وتستقطب اهتمام روّاد المواقع الاجتماعية في كل بقاع العالم، وتَخرج من أجلها المسيرات الشعبية الحاشدة والعفوية في أكثر من عاصمة ومدينة.

ما صنع من فلسطين قضية العالم ليس أنها تقع في منطقة جغرافية استراتيجية ظلت مطمع كل الغزاة عبر التاريخ منذ بدء الحضارة البشرية في منطقة الهلال الخصيب التي ظهرت فيها أولى الحضارات البشرية وأعرقها، ولا أنها قضية تمتح مرجعيتها من حروب وصراعات دينية قديمة وجدت منذ وجدت الديانات السماوية، ولا أنها أقدم وأعقد قضية استعمار واحتلال وظلم عرفه التاريخ المعاصر. تبقى كل هذه الخلفيات التاريخية والدينية والاستراتيجية والسياسية حاضرة تعطي لهذه القضية تفرّدها ووهجها والاهتمام الذي تحظى به في العالم، فهي التي جعلتها حيّة لا تموت، لكن ما حدث في الشهور الثلاثة الماضية أعطى للقضية زخما لم تعرفه من قبل، على الأقل في الأزمنة المعاصرة، جعلها تتصدّر القضايا العالمية وتُغطّي على كل الصراعات والحروب والمشكلات التي يعرفها العالم اليوم، وتتحوّل إلى قضية العالم بامتياز وبلا منازع.

يعود الفضل في رفع قضية فلسطين إلى مستوى قضية العالم إلى أربعة عوامل أساسية: أولها، قوة الصدمة ووقع المفاجأة يوم 7 أكتوبر، وهذه تُحسب للمقاومة الفلسطينية التي عرفت كيف تختار توقيت عمليتها الأسطورية “طوفان الأقصى”، وطريقة إدارتها هجومها الخاطف والناجح الذي قضى بضربة لازب على أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وأذلّ كبرياء الدولة الصهيونية التي أسّست أسطورتها على تفوّق عرق شعبها المختار، وحتى الذين سارعوا إلى إدانة هذه العملية الفريدة من نوعها، من حيث تخطيطها وتنفيذها، لم يستطيعوا أن يخفوا مفاجأتهم من وقوعها واستغرابهم من أن تكون من تفكير المقاومة الفلسطينية وتنفيذها. ويتمثّل العامل الثاني في صمود المقاومة الفلسطينية التي فاجأت العالم بشجاعة مقاوميها وبسالتهم في مواجهة آلة حرب جبّارة مسنودة من أكبر القوى العسكرية في العالم، وأبهرت المراقبين بنوعية حربها الفريدة التي تسطّر يوميا ملاحم عظيمة في القتال والمواجهة والتخطيط والتكتيك العسكري، ولفتت انتباههم إلى صلابة عقيدة المقاوم الفلسطيني وقوة معنوياته التي يستمدّها من إيمانه بدينه وبعدالة قضيته. أما العامل الثالث فجسّده الصبر الأسطوري للشعب الفلسطيني، وتمسكه بأرضه ومقاومته، بالرغم من حجم التضحيات الكبيرة التي قدّمها ويقدّمها من دمه، من أطفاله ونسائه ورجاله، وبالرغم من قوة الدمار الذي تعرّضت له مدنُه، والنيران التي تُصبّ بدون توقّف فوق رؤوس أفراده طوال ثلاثة أشهر. ومع ذلك، لم يخرُج فردٌ واحدٌ منه يلوم المقاومة أو يتوجّه إلى غير الله طلبا للعون على الصبر والثبات. ويتمثّل العامل الرابع في حجم الجرائم الإسرائيلية وفظاعتها التي لم يسبق أن شهدتها حروب سابقة، مقارنة مع أعداد الضحايا ومدّة الحرب ورقعة مكانها، فقد أدت جرائم الكيان الصهيوني إلى انكشاف وجهه الإجرامي البشع، وعرّته وأظهرت دمويّته وسادِيّته، وفضحت أيديولوجيته العنصرية الشوفينية الكولونيالية الإحلالية. ويبقى العامل الخامس هو ذاك الذي اختزله اصطفاف الغرب وإعلامه إلى جانب إسرائيل منذ اللحظة الأولى، ما شجّعها على ارتكاب جرائمها وبرّرها لها وروّج أكاذيبها، ما أدّى إلى نتائج عكسية تتمثل في الوعي المتنامي داخل الرأي العام الغربي بمظلومية الشعب الفلسطيني، وفي حالات أقلّ انكشافا طبيعة الكيان الصهيوني الإجرامية.

جعلت كل هذه العوامل من القضية الفلسطينية قضية العالم، إلى درجةٍ يمكن القول معها، من دون تواضع من يصنعون التاريخ اليوم في غزّة، إن مستقبل العالم المنظور يُصنع اليوم في القطاع المحاصر بين وحل أتربته وتحت ركام الدمار الذي ألحقته آلة الحرب الصهيونية بمدنه. والبداية من مستقبل مجرم هذه الحرب، نتنياهو، فمصيره معلّق بما سوف تسفر عنه ومعه مصير حكومته اليمينية وجنرالات جيشه ومخابراته الذين أثبتوا فشلهم في توقع هجوم 7 أكتوبر، وفي الرد عليه الذي تحوّل إلى جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية، سوف تلاحقهم أمام محاكم العالم، عاجلا أم آجلا. وليس فقط مصير قادة الكيان الصهيوني هو وحده المرتبط بمآل هذه الحرب، وإنما سيكون لها انعكاسات بعيدة المدى على مستقبل الكيان نفسه الذي لم يعد بإمكانه أن يعطي الانطباع مستقبلا لليهود بأنه الوطن الذي يوفّر لهم الأمن والاستقرار، بما أن بشاعة الجرائم التي ارتُكبت في غزّة سوف تؤدي إلى ولادة جيل غضب فلسطيني وعربي مقبل، سيكون أشدّ كراهية وسخطا على إسرائيل والغرب الداعم لها، ليس فقط داخل حدود فلسطين التاريخية، وإنما في كل البلاد العربية. وهنا يأتي مستقبل الرئيس الأميركي، جو بايدن، المعلّق، هو الآخر، بحرب غزّة، بعد أن انغرست رجلاه في وحْلها، وتشوّهت صورة بلاده في أوساط الرأي العام في العالم، وفي المنطقة العربية على الخصوص، بسبب مواقف إدارته المشاركة في جرائم الحرب وجرائم الإبادة التي نفّذها الجيش الإسرائيلي بأسلحة أميركية، وبدعم وإسناد عسكري وسياسي ودبلوماسي أميركي. وقبل أن تحسم نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية نهاية هذا العام في مصيره، ستكون نتيجة حرب غزّة عنوانا كبيرا لما سيكون عليه مستقبله. أما مستقبل أوروبا التي فضحت هذه الحرب، وقبلها حرب أوكرانيا، تبعيّتها العمياء لأميركا، فهي أمام اختبار كبير لاستعادة استقلالية قرارها قبل فوات الأوان، وتشظي اتّحادها إلى دويلاتٍ تحوم في مجرّات قوى عالمية صاعدة. وهذه القوى الصاعدة تجسّدها اليوم الصين، المستفيدة الكبرى من كل حروب الغرب الخاسرة في أوكرانيا وفي غزّة، لكن هذه الأخيرة أفادت أيضا قوى أخرى، مثل روسيا وإيران، اللتيْن سوف تخرجان قويتين بعد حرب غزّة. في حالة إيران، صنعت منها هذه الحرب لاعبا إقليميا أساسيا يدير حروبه بالوكالة، وينتصر على خصومه بالنقاط. وفي حالة روسيا، سوف تستمر في الحفاظ على الأمر الواقع الذي فرضته في أوكرانيا، خصوصا بعد أن نجحت في تحويل حرب الاستنزاف التي حاول الغرب فرضها عليها إلى حرب استنزاف للغرب في المعدّات والمعونات التي لا يكفّ رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي عن الإلحاح في مطالبة دوله لمدّه بها، وبإمعان كبير في الإجحاد ونكران الجميل!

 

وحتى قبل أن تضع الحرب على غزّة أوزارها، الخاسر الأكبر منها ليس هو الشعب الفلسطيني الذي يضحّى من أجل حريته واستقلاله، وإنما الأنظمة العربية المتخاذلة التي لا يجب بعد اليوم أن تستكين إلى طمأنة أجهزتها القمعية، لأن الشعوب العربية التي خرجت تناصر القضية الفلسطينية سوف تتعلم من الشعب الفلسطيني، كيف تصنع حرّيتها بقوة إرادتها لاستعادة زمام تقرير مصيرها بيدها ككل الشعوب الحرّة في العالم. وأخيرا، وكيفما كانت نتيجة هذه الحرب العدوانية، فقد أثبتت انتصار إرادة الشعب الفلسطيني البطل ومقاومته الباسلة، وأعادت إلى القضية الفلسطينية وهجها السياسي والإنساني والقيمي في العالم، قضية حرية واستقلال وإدارة شعب حر يسعى إلى تحقيق تطلعّاته المشروعة في تقرير مصيره وإقامة دولته الحرّة المستقلة وعاصمتها القدس. وفي المقابل، أكّدت، لمن ما زالت تراوده ذرّة شكّ، أن استمرار تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني الحرّ، وتقوية دويلة الأبارتهايد الصهيونية المصطنعة، وهرولة أنظمة الذلّ والخذلان للتطبيع معها، لن يؤدّي سوى إلى مزيدٍ من التصعيد ومن الكراهية والحقد والغضب الذي سينفجر ذات يوم في وجه صانعيه في كل مكان!

مقالات ذات صلة