فن العيش الحكيم.. إبراهيم غرايبة

” من ولد بموهبة وكرس لها حياته، فستمنحه أجمل حياة على الأرض” غوته

يعدّ كتاب شوبنهاور “فن العيش الحكيم” من أكثر الكتب تداولا وتأثيرا في أوساط المثقفين الشباب، وهو وإن كان أقل شهرة وانتشارا من كتاب نيتشه (1844 – 1900) “هكذا تعلم زرادشت” فإنه ملهم أساسي لنيتشه وكتابه، وأكثر عمقا وفصاحة. عاش شوبنهاور (1788 – 1860) برغم تقدمه في العلم والفلسفة معظم حياته وحيدا بلا أسرة ولا أصدقاء، وكان يرى في الفردية انسجاما مع الذات، وأن الكاره للعزلة كاره للحرية، فلا نكون أحرارا إلا في عزلتنا.
يرى شوبنهاور الحياة كما فهمها أيضا أبيقور وأرسطو من قبله قابلة أن يعيشها الإنسان بمفرده، فالإنسان لا يحتاج ليعيش سوى ألا يموت، أي الطعام والشراب والكساء والصحة والمأوى، وما عدا ذلك مما يبذل الناس لأجله معظم مواردهم وأوقاتهم لا يحتاجون إليه ولا يضيف إليهم شيئا، فالحياة البشرية محكومة بثلاثة شروط: الكينونة، ما نحن إياه، شخصية الإنسان بمعناها الشامل، وتشمل الصحة والقوة والجمال والمزاج والطبع والذكاء، و”الحيازة”؛ ما نملكه من أشياء. و”التمثلات”؛ ما نمثله في أعين الآخرين وموازينهم.
الحياة أساسا أن تكون أنت، وفي ذلك فإن حظوظ الناس في معايشة حياة الكينونة مفتوحة على الممكن ويتساوون فيها، لكنها غالبا تكون من نصيب الأغنياء بدواخلهم وليس بأموالهم، وكان سقراط وهو يتأمل السلع الغالية المعروضة للبيع يقول كم من حاجة لست بحاجة إليها. ذلك أن الشرط الأول والجوهري لسعادتنا هو ما نحن إياه، هو طبعنا أولا وأخيرا. يقول الشاعر الألماني غوته (1749 – 1832)
“كما في اليوم الذي رأيتَ فيه النور
حيث الشمس والكواكب
فكبرتَ وكبرت حتى صلب عودك
بحسب المشيئة الأولى التي أسست لبدايتك
هو ذا قدرك، هو ذا مآلك، لن تستطيع منه فكاكا
هذا ما قاله العرافون قبلنا ونطقت به الرسل
لا توجد في العام قوة قادرة على كسر الشكل
شكل تحدرنا منه واستعرناه
ينمو وتنمو معه الحياة”
وغاية ما نستطيعه هو الاستعانة بهذا الطبع الممنوح وتسخيره لما فيه نفعنا. ويغلب على الشباب الانسياق وراء التخمينات التي تجعلنا نتوهم أننا نتوفر على قدرات وقوى خيالية وبعيدة عن الواقع، فلو تفوقت صفات الكينونة فينا فإن الحكمة تقضي بالحفاظ على صحتنا ونماء ملكاتنا لا أن نراكم الثروات والخيرات المادية، إذ لا فائدة منها إلا في حدودها الدنيا الضرورية لاستمرارنا في العيش وعلى قيد الحياة. فالسعادة تقاس بما في الإنسان لا بما عنده. يقول شوبنهاور إن الإنسان يعكس في سعيه إلى التجمع مع من يشبهه فراغه الداخلي وصغر عقله ومحدودية الذكاء؛ ووحدهم الأغبياء والبلهاء يلهثون وراء المكانة الاجتماعية القائمة على الغنى والثروة.
إن الإنسان ابتداء هو جوهره الذي لا تضيف إليه الأشياء الخارجية شيئا، يقول أرسطو: الطبيعة سرمدية والأشياء عارضة. وهذا يفسر لماذا نتحمل المصائب الخارجية بعكس المصائب التي نكون مسؤولين عنها.
هكذا فإن تسعة أعشار السعادة كما يقول شوبنهاور هي الصحة، والسعادة في مجملها أو مجموعها هي ما نملكه من نعم ذاتية، الطبع النبيل، والعقل الراجح، والمزاج الرائق، والنفس المرحة، والجسم السليم، ويجب أن نصون هذه النعم وننميها بدل اللهاث وراء النعم الخارجية ومظاهر الشرف والأبهة. والعدوان اللدودان لسعادة الناس هما الألم والملل، ولا علاج للبؤس إلا الثراء الداخلي، ثراء العقل والروح. وكما تكون الدول المكتفية هي الأكثر سعادة فإن الفرد كذلك.

مقالات ذات صلة