تجفيف “منابع المافيات”!.. محمد أبو رمان

ليس أخطر ما كشفه مدير مستشفى البشير، محمود زريقات، هو وجود قرابة 800 موظف يأخذون رواتبهم وهم في منازلهم – وإن كان الرقم مرعبا ولا يحصل إلاّ في دول لا يوجد فيها أي معنى أو تقاليد للإدارة العامة، أو مؤسسات فاعلة- لكن خطورة هذه المعلومات أنّها تطرح أسئلة حقيقية عميقة وكبيرة حول ما وصلنا إليه من حالة تغلغل الفساد وتعشيش لمافيات كبيرة منتشرة في مؤسسات مختلفة من الدولة.

الموظف الأمين، الذي كُّلف في التحقيق بالملف، واكتشف هذه الجريمة الوطنية، فقام عدد من هؤلاء بالاعتداء عليه، من الضروري أن يكافأ وأن يكون نموذجاً ومثلاً للأمانة والشجاعة، ولا يكفي توفير حراسة لمدير المستشفى، بل لا بد من متابعة تفاصيل وحيثيات الموضوع.
السؤال الذي هيمن عليّ – وأعتقد على كثير منكم- وأنا أقرأ تصريحات الزريقات هو: ألم يلفت انتباه كل المسؤولين والمدراء السابقين والعاملين في المستشفى هذا الرقم الضخم للعاملين في النظافة (1200) شخص، في حين أنّ مستوى النظافة والإهمال واضح للعيان لكل من يزور المستشفى والشكاوى متراكمة بهذا الخصوص من المواطنين؟!
ملف مستشفى البشير يرتطم بكل خطاب الدولة حول دولة القانون والمؤسسات ومواجهة الفساد الإداري والبيروقراطي، ويعيد التذكير بقصص كثيرة شبيهة لا تمثّل – على ما يبدو- سوى رأس جبل الجليد، بينما الجزء الكبير الغاطس تحت الماء ما يزال غير مرئي لدينا!
ما اكتُشف في البشير، والاعتداء على الموظف، وتهديد مدير المستشفى، وقصة الدخان وما أثير حول تسريب معلومات ساعدت المشبته بهم على الهروب قبل التعميم عليهم،..، هي مؤشرات وعلامات على أنّ شعار دولة القانون والمواطنة أمام تحدٍّ كبير، وستواجه الحكومة قوى صلبة عميقة متجذّرة أصبحت بمثابة “مافيات” حقيقية متشابكة ولها مصالحها، وستقاتل من أجل حماية هذه المصالح، وأي خطوات حقيقية في هذا المجال بمثابة حرب وجودية مع هذه المافيات!
ما يفترض أن تقوم به الحكومة اليوم، وقد بدأته حكومات سابقة في خطوات إصلاحية وتصحيحية، هو تنظيف البيت الداخلي مما أصابه من عفن وفساد، بعدما تُرك فترة طويلة من دون عناية ولا رعاية، بل ساهمت السياسات الرسمية لفترة طويلة في الوصول إلى هذه المرحلة، عندما تمّ تغليب اعتبارات أخرى على قيمة سيادة القانون ورضخت الحكومة لسياسات الاسترضاء والمحاباة، كل ذلك ولّد ما وصلنا إليه اليوم من انهيار السلطة الأخلاقية للدولة، وجرّأ على هذه الانحرافات الكبيرة.
في كتابه المهم “نقطة تحوّل”  Tipping Point يشرح الصحفي الأميركي، مالكوم غلادويل نظرية مهمة وهي النافذة المكسورة، التي تقوم على فكرة أنّه إذا كسرت نافذة في عمارة ولم يعبأ أحد، ولم يصلحها أحد، ربما يؤدي ذلك إلى كسر مزيد من النوافذ، ثم تنتقل العدوى إلى العمارات المجاورة، وهكذا ينتشر الشعور بغياب النظام والمساءلة والقانون، والعكس صحيح فإذا تمّ التعامل مع النافذة وإصلاحها فوراً فذلك يرسل بإشارات مناقضة تماماً.
العبرة من هذا الكتاب – في الحالة الأردنية تتمثل بضرورة المواجهة مع هذه المافيات والشبكات، والعمل على اكتشاف المزيد منها وتجفيف منابعها، وحماية الموظفين والمسؤولين الذين يقومون بهذه المهمات الوطنية المهمة، لأنّهم جزء حقيقية من فرقة إنقاذ وطنية لاستعادة سمعة الدولة وقيمة سيادة القانون ورد الاعتبار للإدارة العامة.

مقالات ذات صلة