فيديوهات جنود الاحتلال: نزوع إبادة غرائزي؟

حرير- خمسة من صحافيي «نيويورك تايمز» الأمريكية عكفوا على دراسة مئات من أشرطة الفيديو التي سجّلها جنود الاحتلال الإسرائيلي، بأنفسهم ولأنفسهم أو لأصدقائهم وأقربائهم (الأطفال خصيصاً) ونسائهم (زوجات أو حبيبات)، وذلك منذ بدء حرب الإبادة ضدّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة؛ ثمّ عمد الكثيرون منهم إلى تحميل تلك المشاهد على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وخاصة الـTikTok وتحقيق الصحيفة يبتدأ من اقتباس هذه العبارة: «توقفتُ عن إحصاء عدد المساكن التي محوتُها عن وجه الأرض»، التي تركها أحد أولئك الجنود، وشوهدت من مئات الآلاف.

الـ«نيويورك تايمز» ليست مناوئة لدولة الاحتلال، والعكس التامّ هو الصحيح بالطبع، وهذا اعتبار أوّل قد يصحّ الانطلاق منه لتلمّس أسباب الصحيفة وراء نشر مادّة بغيضة منفّرة، تبلغ بعض فقراتها مستوى من التفضيح يداني تجسيد همجية عنفية حشوية، غريزية أحياناً وحيوانية في أمثلة أخرى ودموية غالباً.

صحيح أنّ هذه التوصيفات لا تُستخدم من الصحافيين الخمسة، ولكن عدم اللجوء إليها حرفياً لا يطمس في شيء ما يحتشد بين سطورها من دلالات صريحة لا ريب في استقراء معانيها.

صحيح أنّ الفقرة الثانية في التحقيق تسارع إلى الإيضاح بأنّ بعض هذه اللقطات «تخرق تعليمات قوات الدفاع الإسرائيلية»، غير أنّ الفقرات التالية لا تعفّ عن الإشارة إلى أشرطة تُظهر جنود الاحتلال وهم يعيثون تخريباً في متاجر محلية وغرف مدرسية، مع تعليقات تحقيرية بحقّ الفلسطينيين، ومشاهد انخراط بلدوزارات الاحتلال في تدمير منشآت مدنية؛ مترافقة مع هتافات تدعو إلى إعادة الاستيطان في قطاع غزّة، وتستعيد خطاب ساسة اليمين الإسرائيلي المتطرف.

كذلك لا يغفل التحقيق الإشارةَ إلى أنّ واحداً من هذه الفيديوهات عُرض خلال مداولات قضية جنوب أفريقيا ضدّ دولة الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية، كما اقتُبست خمسة أشرطة أخرى، في سياق البرهنة على نزوعات الإبادة. كما يشدد على عنصرَيْن ضمن مسعى الموضوعية المهنية (والحرص على ردّ اعتبار دولة الاحتلال أيضاً، غنيّ عن القول): أنّ الصحافيين تحققوا، جيداً، من صحة مواقع تصوير الأشرطة وأنها تقع بالفعل في مناطق القطاع المختلفة؛ وأنّ أياً من الجنود الإسرائيليين، أصحاب الأشرطة، لم يقبل التعليق على شريطه عند التواصل معه.

ورغم أنّ هذه السطور لا تعتمد التعميم الإطلاقي، حول تأصّل نزوعات الإبادة على نحو غريزي وحشوي لدى كلّ وأيّ جندي إسرائيلي؛ إلا أنّ مئات الفيديوهات التي توثّق أعمال الاحتلال الهمجية، وأكثر من 27 ألف شهيد حتى الساعة في صفوف الفلسطينيين المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة، تبيح مقداراً غير ضئيل من حقوق توسيع ظواهر التوحش العسكري الإسرائيلي خارج النطاقات الفردية، نحو ما يمكن اعتباره سلوكاً جَمْعياً مَرَضياً، لا تغيب عنه الهستيريا.

ما يعفّ عنه صحافيو الـ«نيويورك تايمز» هو التذكير بأنّ فيديوهات الجنود ليست وحدها الدليل على اتساع الظواهر العنفية هذه، إذْ سبق لوزير الدفاع الإسرائيلي أن أطلق صفة «الحيوانات البشرية» على سكان القطاع، ولم يتردد رئيس دولة الاحتلال في التصريح بأنّ «أمّة غزة مسؤولة بأكملها»، وطالب وزير التراث باستخدام السلاح النووي ضدّ القطاع؛ وأمّا بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة الاحتلال، فقد هرع إلى التوراة ليقيم الصلة الإبادية بين العماليق والفلسطينيين.

وفي عشرينيات القرن الـ20 كان أبا أخيمئير، أحد مؤسسي الحزب «التنقيحي» الفاشي صحبة زئيف جابوتنسكي، يستهوي تشبيه الأخير بأمثال موسوليني، ويطلق عليه لقب «دوتشي يهودا والسامرة»؛ أمّا في عشرينيات القرن الحالي الـ21 فلعلّ أحفاد هؤلاء، أمثال الجندي الإسرائيلي الذي ملّ من إحصاء الخرائب، سئموا أيضاً كبح الغرائز الجامحة فأطلقوا لها العنان: ضدّ مدرسة أو مكتبة أو مستشفى؛ ما دامت الأنفاق لا تستعصي عليهم في قليل، بل في كثير معقد مديد.

مقالات ذات صلة