الاستبداد تعْبان والديمقراطية مرهَقة

دلال البزري

حرير- كان هذا الخريف صعباً لدى ثلاث أكبر أنظمة استبدادية على وجه المعمورة:

الروسي، أولاً… خابَت ظنون بوتين بنصر خاطف في أوكرانيا، فأعلن في سبتمبر/ أيلول الماضي عن تجنيد ثلاثمئة ألف رجل إضافي في جيشه. وكانت الشرارة: كيف يحتاج بوتين إلى كل هذا العدد من الجنود الجُدد، فيما هو سمّى تلك “الأعمال” التي يقوم بها في أوكرانيا بـ”العمليات الخاصة”، “السريعة والنبيلة”، وفرض عقوبات قاسية على من يصفها بـ”الحرب”…؟!

انقشع التابو، واندفع الشباب الطموح بعيداً عن بلاده، هرباً من الخدمة الإلزامية هذه، نحو أقرب حدود متوفرة. نصف مليون كادر ذوي كفاءات، لا يريدون أن يحاربوا. ومن لا يملك إمكانية الهرب اختبأ في بيته، عملاً بنصيحة أجداده: “لا تخرج، لا تفتح الباب لأحد”. وكانت تظاهرات ضد التجنيد سرعان ما أخمدت.

وبرزَ اسم فالنتينا ملنكوفا، رئيسة “لجان أمهات الجنود”. عُمْر جمعيتها أكثر من عشرين عاماً، وقت كان بوتين يزجّ شبابه في الحرب ضد الشيشان. وهي اليوم تلاحق السلطات بفضح خرقها المنهجي قوانين التجنيد المعمول بها، بغياب لجان طبية فاحصة، وعدم التمييز بين الأعمار وعدم التدريب على القتال. تُحصي السيدة فالنتينا ملنكوفا أسماء المجنّدين، أصول غالبيتهم الريفية الفقيرة، تتلقى رسائل الأمهات الباحثات عن أولادهن.. إلخ. ومن وقتها، الكلمة الذائعة بين الروس: “كأن الناس فهموا الآن ما حصل في الرابع عشر من شباط” (تاريخ غزو روسيا أوكرانيا). شرارة التجنيد الإلزامي أعطت لغزو أوكرانيا اسمها الحقيقي، الحرب. فانقلبت الحال، والطبخة البوتينية تشوط.

الإيراني أيضاً: بعد يوم واحد على إطلاق بوتين قراره بالتجنيد، قُتلت الشابة مهسا أميني بسبب حجابها “غير الصحيح” على يد “شرطة الأخلاق”، فكانت شرارة الانتفاضة الشعبية التي ألفناها منذ أربعة أشهر، وهي مستمرّة. انطلقت من الأقليات إلى الأكثريات في المدن والجامعات والمدارس. شعاراتها جذرية، تريد إسقاط المرشد الأعلى. التقطت الحجاب وحوّلت السفور إلى مشهد وموضوع، فأسقطت في طريقها الأسس الدينية الجبّارة التي يقوم عليها نظام الملالي. واستفزت دروع “الباسيج”، الذين أخذوا يقتلون، يسجنون ويعذّبون.

وضعت مسألة الحجاب في صلب جدالات المستقبل، وبحرية وروح جديدتَين، سوف تكون لهما آثار علينا، عاجلاً أو آجلاً: كما كانت إيران في طليعة الأسلمة عن طريق الحجاب، تصدّره أينما فتحت على “مداها الحيوي” من نوافذ، واسعة أو ضيقة… ستصبح إيران، بعد هذه الثورة، بؤرة ما بعد حداثية، تزوّد ساحاتنا بحصيلة تجربتها، وتغذّي سجال الحجاب والسفور، الذي يبست عظامه من الملَلْ والتكْرار. وهذا كله لن يثني النظام عن المزيد من الوحشية والقتل. وقد يبقى قائماً مهيمناً، ولكن النقاش حول واحد من أسُسه المقدّسة انطلق. (أعلنت النيابة العامة الإيرانية عن “حل شرطة الأخلاق”. هل يلغى الحجاب بعد ذلك؟ لا نعرف. ولكن القرارين، الحل والإلغاء، لو صدرا، فسوف يسجلان نقاطاً لصالح الانتفاضة الشعبية).

الصيني أخيراً: شرارتها قادمة أيضاً من أقليات. إنهم الإيغور، تلك الأقلية الصينية المسلمة الناطقة بالتركية، والتي تخوض فيها السلطات الصينية سياسة استعمارية سافرة، تفتك بهم، تسْكنهم في ما يشبه معسكرات الاعتقال. منذ أربعة أشهر، أغلقت هذه السلطات مقاطعتهم، شينجيانغ، على أحيائهم وعماراتهم، حاصرتهم برجال الأمن، ومنعتهم من الخروج، وكادوا يموتوا خلالها جوعاً وعطشاً وبطالة بين أربعة حيطان. والذريعة “اجرءات ضد كوفيد”… في نهاية الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) اندلع حريق في أحد أحياء عاصمة المقاطعة، أورومتشي، التي يقطنها أولئك المواطنون من الإيغور. أودى الحريق بأكثر من عشرة أشخاص من بينهم، وأعداد من الجرحى، وتحوّل إلى كابوس جميع الصينيين، فنزلوا إلى الشارع في أكبر تظاهرات تشهدها الصين منذ انتفاضة تيان آن مين عام 1989، غاضبين من حبسهم ومراقبتهم والتضييق على حريتهم بحجّة “كوفيد”. وكان في ذهن كل واحد منهم مشهد جماهير الكرة في مونديال قطر؛ حشود تختلط وتتقارب بوجوه خالية من الكمّامة. وشعارهم إسقاط الرئيس الصيني شي جين بينغ وأوراق بيضاء محمولة على اليدين، للتصريح عن الرقابة الشديدة على حريتهم بالتعبير. وفي المدن الكبيرة والمتوسطة، طلاب، عمّال، أهالي الأحياء، كلهم يقولون الكلمة الواحدة: الإجراءات ضد كوفيد التي أغلقت علينا الحياة هي من أجل ترسيخ الرقابة القصوى علينا! وكأنهم يردّون بذلك على المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الحاكم، الذي كرّس القيادة الأبدية للرئيس شي جين بينغ، والذي “تمسّكَ بالماركسية اللينينية وأفكار ماو تسي تونغ”.

في الأنظمة الثلاثة هذه كان ثمّة عقد بين السلطة والمواطنين: نقدّم لكم الاستقرار وتسكتون عن طريقتنا بالحكم، ولا تهتمون إلا بحيواتكم الخاصة. بل يتفاخر بهذا الاستقرار: انظروا إلى الأنظمة الديمقراطية، وقلّة ثباتها على رئيس. كم من رؤساء هذه الأنظمة عاصرنا؟! هم رحلوا ونحن باقون…! أضف إلى الاستقرار العزّة القومية، المجْبولة هي أيضاً بالعجْرفة، وبروح كولونيالية عالية تجاه شعوبٍ مهدّدة بجبروتها: مرّة بإحياء الإمبراطورية القيصرية التوسّعية، كما روسيا، ومرة باختراعات القنبلة النووية والصواريخ على أشكالها، مثل إيران، والتمدّد بمليشاتها المشرقية. ومرّة بأننا سنكون القوة العالمية الأولى بفضل اقتصادنا، ونحن في طريقنا إلى السيطرة العسكرية على جنوب شرق آسيا، مثل الصين.

الآن، العقد ينفرط، وطريقه طويل، ليس لأن الغرب “يتدخّل”، بل لأنه يعاني هو نفسه من تراجع ديمقراطيته: أميركا أصيبت بمرض الترامبية. وهذه الأخيرة طاولت شظاياها ديمقراطيين ونصف ديمقراطيين ومستبدّين وأصحاب المليارات.. على حدّ سواء، كلّ بجرعته الخاصة من الخبث أو الشماتة أو الاستسهال.

الديمقراطيات الغربية، بالتناغم مع سموم الترامبية، تعاني من أمراض أخرى: تقويض نتائج انتخاباتها، والانتخابات هي التجسيد الحيّ للديمقراطية، التضييق على الحرّيات والحقوق القانونية، خيبة الشباب من الأحزاب الحاكمة ومن المسؤولين ذوي الصلة المقطوعة بالواقع، الفساد العنيد الذي لا علاج له، صعود أحزاب اليمين المتطرّف، الفاشي أو النازي الجديد. وتآكل نصف الديمقراطيات من فئة “الكفاءة العالية” خلال السنوات الخمس الأخيرة… (من تقرير أصدرته، أخيراً، المؤسسة الدولية من أجل الديمقراطية والمساعدة الانتخابية، ومقرّها استوكهولم).

لبنان ليس خارج هذا الزمن: الاستبداد عنده يتعايش مع الديمقراطية، وعقوده “الاجتماعية” ملْسوعة بنار جحيمه. يصبو إلى “برّانية” قراره، يتوسّلها. فيبقى هكذا، تتقاذفه الكرة في ملعب استبدادٍ تعْبان وديمقراطية مرهَقة… إلى أن يرسو مصيرهما على رابح. ومن الآن وحتى لحظة الرسو هذه، قد يموت لبنان.

مقالات ذات صلة