انتصارات عربية

أسامة الرشيدي

حرير- يستمرّ العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزّة، مع خذلان رسمي عربي غير مسبوق، لم ينعكس فقط في عدم الضغط العملي لمحاولة إنهاء العدوان، بل تمثل أيضاً في أشكال أخرى أكثر فجاجة وفجورا، مثل التحريض على المقاومة، وابتزازها بالمآسي الجارية في القطاع، لإجبارها على تقديم تنازلاتٍ، والتربح من محاولة الغزّيين الخروج من القطاع، عبر فرض رسوم باهظة عليهم، إلى درجة أجبرت عديدين منهم على إطلاق حملات إلكترونية، تطالب بالتبرّع لهم، لمساعدتهم على الخروج، أو مساعدة ذويهم على السفر.

وأخيرا، جاءت مشاهد إنزال المساعدات جوّا، ويمكن النظر إليها من ثلاث زوايا: أنها لا تسمن ولا تغني من جوع، فلا تلبّي أدنى متطلبات سكان القطاع الغذائية والدوائية. وأنها تجمّل وجه الاحتلال القبيح، وتساعده على التبجح والزعم أنه لا يحاصر قطاع غزّة ولا يجوّع سكّانه، بدليل أنه يسمح لهذه الدول بإسقاط المساعدات، ما يؤدّي إلى إفلات الاحتلال من المحاسبة الدولية. وأخيرا، تضمّنت طريقة إنزال المساعدات عدة أخطاء وسوءا في التنفيذ، مثل إلقائها في البحر حتى تكون وجبات للأسماك! أو إلقائها بطريقة خاطئة، تسبّبت في استشهاد وإصابة عدد من المواطنين. كما أن الاحتلال يقصف أماكن إنزال هذه المساعدات بعد توجّه المواطنين في شمال القطاع إليها مباشرة.

أما أكبر الخذلان الرسمي العربي فهو قمع الشعوب ومنعها من إبداء ولو قدرٍ يسير من التضامن، ولو بأضعف الإيمان، سواء عبر المظاهرات أو التبرّع، أو غيرها من أشكال الدعم الشعبي. وقد انعكس هذا العجز العربي الكبير على المواقف الشعبية نفسها، إذ حاول بعضهم تسجيل انتصارات افتراضية وهمية، لتعويض الإحساس بالعجز عن مدّ يد العون، ولمحاولة إقناع النفس بأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان، وبأن هذا أقصى ما يمكن تقديمه للشعب الفلسطيني.

تحوّل التضامن إلى شيءٍ أشبه بالطقوس الفلكلورية، مثل رفع أحد المطربين علم فلسطين في أثناء إحدى حفلاته! والاحتفاء بمتضامنين آخرين، مثل بائع البرتقال في مصر، وهو إن كان تضامنا محمودا، إلا أن مواقع التواصل تفاعلت معه بطريقة مقيتة، فأنفقت تبرّعات لدعم البائع، بدلا من توجيهها إلى سكّان غزة. كما جرى الاحتفاء بعباراتٍ قالها بعض المقاومين الأبطال، أو مشاهد أيقونية لهم، حتى أن واحدةً من تلك العبارات تحوّلت إلى مصدر لاستظراف عديدين ممن يطلقون على أنفسهم “صُنّاع محتوى” و”مؤثّرين” عرب، قبل أن يستشهد قائل تلك العبارة في ما بعد. حتى المؤثرين الذين تكلموا في البداية عما يحدُث آثروا السلامة وصمتوا تماما بعد ذلك، معتقدين أن تسجيل الموقف مرّة واحدة يكفي. بينما تشهد شوارع المدن الغربية مظاهرات وتحرّكات مساندة للقضية الفلسطينية، لم تعد مدن عربية عديدة أي أنشطة مماثلة لها، في مؤشّر فاضح لحال الأمة العربية الراهن.

امتدّت الانتصارات العربية الوهمية إلى أروقة المحاكم، بعد محاولة عرب عديدين ربط أنفسهم بالدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية. وجدنا بعض وسائل الإعلام العربية تزعم أن مجرّد تقديم مرافعات أمام المحكمة هو مشاركة لجنوب أفريقيا في دعواها، رغم أن هذا مخالفٌ تماما للحقيقة، لأن هذه المرافعات شكّلت جزءاً من رأي استشاري طلبته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2022، بشأن آثار الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية.

تزيد هذه المعارك التافهة وإعلان الانتصار فيها مشاعر شتى، لكن المؤكد أنها تزيد إحساس الغزّيين بالخذلان الذي تعرّضوا، وما زالوا يتعرّضون له، من إخوة اللغة والدين، ولا تبرئ أحداً من مسؤوليته عما يجري. لا يخلو الأمر بالطبع من بعض انتصاراتٍ وجهودٍ مشكورة ومقدّرة، مثل المقاطعة التي كبّدت شركاتٍ كبرى خسائر جسيمة، وبعض الحملات الشعبية التي استطاعت اختراق الحصار وإيصال مساعدات إلى أهالي غزّة، لكن ذلك يبقى أقلّ بكثير من المطلوب، فللانتصارات الحقيقية أشكال مختلفة، أبرزها، بالطبع، وقف العدوان وفتح المعابر المغلقة، ورفع الحصار، وإطلاق سراح الأسرى، وعلاج الجرحى، وإعادة الإعمار، فضلاً عن وقف الجسر البرّي “العربي”، الذي يمدّ إسرائيل بالغذاء. أما الانتصار الأكبر الذي يمكن تحقيقه، فهو انتزاع الحرية للشعوب العربية، فإسرائيل لم تكن لتجرُؤ على ما أقدمت عليه في غزّة لو كانت الشعوب تتمتع بحريتها، ولنا في عدوان عام 2012 خير دليل، إذ انتهى بعد ثمانية أيام، عندما كانت مصر حرة، يحكمها رئيس منتخب. ولذلك، يمكن القول إن الاستبداد هو الجريمة الكبرى التي يجب القضاء عليها، وحينها يمكن القول إن العد التنازلي لإسرائيل قد بدأ.

مقالات ذات صلة