
افتعال التوتّر وأهداف التهديد الإسرائيلي لإيران
جمال زحالقة
حرير- أطلق بنيامين نتنياهو ومكتبه سلسلة من التصريحات والتسريبات المقصودة مفادها، أن إيران ترمم قدراتها العسكرية وتقوم بمناورات إطلاق صواريخ بالستية قد تكون تمهيدا لشن هجوم انتقامي على إسرائيل. وحذّر مسؤولون إسرائيليون إدارة ترامب من «خطورة» إعادة التسليح الإيراني وما جرى رصده من تحركات واستعدادات وتدريبات إيرانية، لمباغتة إسرائيل بهجمات صاروخية مكثّفة.
ففي مؤتمر صحافي مع نظيريه القبرصي واليوناني، رد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، على الأخبار المتداولة، التي مصدرها مكتبه نفسه، عن توتر مع إيران على خلفية «استعراض القوة»، والتهديدات وزيادة وتيرة إنتاج الصواريخ وإجراء التجارب عليها، وقال: «نحن نعرف أن إيران تجري مناورات في الفترة الأخيرة. نحن نتابع ذلك ونقوم بالاستعدادات اللازمة والمطلوبة. وأنا أريد أن اوضّح لإيران، أي عمل سيجابه برد قاس جدّا»، وأضاف: «كانت عندنا إنجازات كبيرة في عملية «شعب كالأسد» (الحرب على إيران). مطالبنا من إيران لم تتغيّر بخصوص مستوى التخصيب وفعاليات أخرى وقف حرب حلفائها ضدنا. هذا لم يتغير وأنا أعرف أن الموقف الأمريكي لم يتغير».
لم يكتف نتنياهو بتوجيه التهديدات لإيران، بل أرفقها بما ادعى أنه يعرفه عن الموقف الأمريكي. وتأتي موجة التحذير من الخطر الإيراني والتلويح بالاستعداد لضرب إيران، تمهيدا للقاء ترامب نتنياهو في فلوريدا، نهاية العام الحالي. ولم يتطرق نتنياهو ومن حوله إلى الملف النووي الإيراني، وأشارت التسريبات إلى أنّ إيران لا تقوم بجهود مكثّفة لترميم المرافق الذرية التي تدمرت جراء الغارات الإسرائيلية والأمريكية، وأن جل الجهود تنصب على إعادة تفعيل خطوط إنتاج الصواريخ ومنصات الصواريخ، واعتبر مسؤولون إسرائيليون ذلك خطرا كبيرا على إسرائيل، خاصة إذا جرى إطلاق كميات كبيرة من الصواريخ في آن واحد، ما سيشل قدرة الدفاعات الصاروخية الإسرائيلية على التصدي لها.
من جهتها نفت إيران الأخبار «الملفقة» عن استعدادات للهجوم على إسرائيل، وذهبت بعض الصحف الإيرانية إلى أنها حرب نفسية ناجمة عن «أزمة الكيان». وأكّد المسؤولون الإيرانيون أن الصواريخ البالستية «خط أحمر» وليست موضوعا للتفاوض، وأنّها معدّة أصلا لأغراض دفاعية ولردع كل من يفكّر أو ينوي الاعتداء على إيران. ويبدو أن إيران ليست في عجلة من أمرها لاستعادة قدراتها النووية، لأنها ببساطة تخشى أن تتعرض هذه القدرات لهجوم إسرائيلي ـ أمريكي جديد، من دون أن تكون لدى الجيش أو الحرس الثوري الإمكانات اللازمة لحماية منشآتها الذرية، بواسطة دفاعات جوية ناجعة وقادرة على التصدي للطائرات المغيرة. وفي الحقيقة فإن إسرائيل لا تخشى الصواريخ البالستية فحسب، بل ربما أكثر، هي تتوجّس من صواريخ مضادة للطائرات تقيّد «حرية» طيرانها فوق الأجواء الإيرانية.
على صعيد التنسيق العسكري المباشر، زار قائد المنطقة الوسطى للجيش الأمريكي الجنرال براد كوبر، إسرائيل هذا الأسبوع والتقى رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال إيال زامير، وحسب تقارير صحافية أطلع زامير ضيفه الأمريكي على معلومات استخباراتية بشأن التطورات «الخطيرة» في إيران، لكن أجهزة الاستخبارات الأمريكية أفادت بأن ليس لديها معلومات أو مؤشرات بخصوص هجوم إيراني قريب. ومساهمة منه في حملة التهديدات قال رئيس الأركان الإسرائيلي في تصريح علني عن إيران، إن «إسرائيل ستضرب حين تقتضي الضرورة». التنسيق العسكري الأمريكي الإسرائيلي يزداد باستمرار، وهو يشمل جميع الملفات الساخنة والملتهبة في غزة ولبنان وسوريا وإيران. لقد شككت بعض الأطراف الإسرائيلية بجدية المعلومات عن تحركات حربية إيرانية، وحذّرت من «خطأ في التقدير» قد يؤدي إلى اندلاع مواجهة من دون أن يقصدها أي من الطرفين. وقال محللون إسرائيليون جدّيون، أن ليس عند إيران مصلحة بمواجهة قبل أن تستكمل بناء قوّتها وقدراتها. وهذا بالضبط ما لا تريده إسرائيل، التي تسعى إلى جر الولايات المتحدة لاستهداف إيران قبل أن تمتلك قدرات التصدي للهجمات على مرافقها ومواقعها وأدوات الدفاع عن مشروعها الصاروخي وبرنامجها النووي. يبدو أن موجة التهديدات الإسرائيلية لإيران هي حملة مفتعلة، مبنية على معلومات ملفّقة ولها أهداف إضافية لوضع إيران تحت تهديد إسرائيلي دائم. هذا لا يعني أن إسرائيل كفّت عن الاستعداد لمهاجمة إيران، بل إن التوقيت الحالي له غايات عديدة غالبيتها غير معلنة. ويمكن تلخيص المآرب الإسرائيلية من صناعة التوتر ودق طبول الحرب، بما يلي:
أولا، رسالة لإيران عبر التأكيد على مبدأ المنع في استراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي، وتوجيه تحذير للمنطقة بأسرها، أن الدولة الصهيونية لم تعد تكتفي بلجم النوايا من خلال الردع، بل هي تستهدف القدرات لتدميرها انطلاقا من مبدأ المنع. وكأنها تقول لإيران: أنتم تبذرون طاقاتكم سدى، فإسرائيل ستقوم بتدمير ما تصنعونه، وما تتزودون به من أسلحة وعتاد ومعدات. وهذا تهديد مباشر وصريح وواضح، لا يحتاج إلى تأويل، خاصة بعد التغيير الكبير في مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر. ووفق هذا المنطق فإن إسرائيل ستشن عدوانا على إيران في مرحلة ما، لكنّها لن تقوم بذلك، من دون مشاركة أمريكية. وزوبعة التهديدات الإسرائيلية هي عاصفة قبل الأوان.
ثانيا، رسالة للإدارة الأمريكية من خلال تضخيم خطورة المناورات الإيرانية، لتسهيل الحصول على قائمة المطالب التي يحملها معه نتنياهو إلى أمريكا. فإسرائيل تستعد للتوقيع على اتفاقية مساعدات أمريكية جديدة، وتطلب المزيد من الدعم. وهي تريد أيضا أن توسع الولايات المتحدة مشاركتها في الدفاع عن إسرائيل، عبر نشر المزيد من بطاريات الصواريخ وتكثيف التعاون الأمني والاستخباراتي، استعدادا لحرب مقبلة مع إيران. كما يريد نتنياهو فورا تكثيف التعاون والتنسيق بين الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية والأمريكية، لتحضير خطة عسكرية مشتركة ضد إيران.
ثالثا، رسالة للداخل الإسرائيلي، أن حالة الحرب ما زالت قائمة، وأن نتنياهو يديرها بمؤهلات غير موجودة عند منافسيه في الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، إضافة لذلك يحاول نتنياهو صرف الأنظار عن قرار تشكيل «لجنة تحقيق خاصة» يقوم هو عمليا بتعيين أعضائها وتحديد صلاحياتها ومهامها. غالبية الإسرائيليين يعارضون هذه اللجنة ويعتبرونها وصفة لتبرئة نتنياهو من مسؤولية أحداث السابع من أكتوبر. وبدل أن ينشغل الرأي العام بها، انصب اهتمامه على مخاطر الصواريخ الإيرانية.
رابعا، يخشى نتنياهو من مفاوضات أمريكية ـ إيرانية للتوصل لاتفاق بشأن الملف النووي ورفع العقوبات، قد تؤدي إلى اتفاق لا يروق له، خاصة أن ترامب يدعي ليل نهار أنه قضى على المشروع النووي الإيراني بالكامل، ولم تعد هناك مشكلة نووية إيرانية ما يجعل العقوبات فائضة عن الحاجة. ويحاول نتنياهو إقحام ملف الصواريخ في المفاوضات الممكنة، وهذه وصفة مضمونة لإفشالها. وفي سبيل «تسخين» ترامب على إيران تشدد إسرائيل على الدعم الإيراني لفنزويلا والدعم الصيني للمشروع الصاروخي للجيش والحرس الثوري في إيران.
لا يمكن فصل الحملة الإسرائيلية بشأن الصواريخ الإيرانية عن تضخيم الذات الإسرائيلي، الذي يبرز في تهديدات نتنياهو لدول إقليمية كبيرة مثل تركيا وإيران. وتسعى الدولة الصهيونية إلى خلق واقع شرق أوسطي تكون هي فيه الدولة الإقليمية العظمى الوحيدة: لها وحدها سلاح نووي ومن المحظور أن يكون لغيرها، ولها وحدها التفوق العسكري ويمنع على سواها الاقتراب منه، وهي تريد لنفسها سيطرة كاملة في أجواء المنطقة. من هذا المنطلق شنت إسرائيل حربها على إيران حتى لا يقوم لها منافس في المنطقة. لكن إيران دولة كبيرة وعريقة ولن تقبل بإملاءات إسرائيل. ويبدو أن المواجهة الإيرانية الإسرائيلية المقبلة شبه حتمية، فإيران لن تتخلى عن مشروعها الصاروخي وبرنامجها النووي، وإسرائيل لن تقبل بذلك.
السؤال الكبير أين العرب من كل هذا. المطلوب أن يطرح العالم العربي حلا يتمثل بنزع المنطقة من أسلحة الدمار الشامل، بدءا بالسلاح النووي الإسرائيلي، ومرورا بمشاريع من الممكن أن تنتج مستقبلا سلاحا نوويا في إيران وغيرها. قد يبدو هذا مستحيلا اليوم، لكن يجب البدء بحملة نزع السلاح النووي فورا، وفي هذا مساهمة عربية في محاصرة الانفلات الإسرائيلي.



