بين تركيا وإسرائيل

غازي العريضي

حرير- تستمرّ عمليات القتل الجماعي في غزّة، رغم اتفاق وقف إطلاق النار والتزام حركة حماس بكلّ بنوده، والعمل بجدّية للوصول إلى جثث كلّ الرهائن، بالرغم من الدمار الهائل الذي لحق بالقطاع، والإمكانات التقنية القليلة المتوفّرة، وعدم اهتمام أميركا وإسرائيل بجثث الأبرياء الفلسطينيين التي لا تزال تحت الركام، نتيجة عملية الإبادة الجماعية التي استهدفتهم؛ وكأنّ لا قيمة لدماء الفلسطينيين وأشلائهم وجثثهم، وللحقيقة التي تطوّق إسرائيل، ويصل الطوق إلى أميركا بانكشاف تفاصيل الإبادة يومياً، واحتلالها الموقع المتقدّم في العديد من وسائل الإعلام العالمية ومواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يسبّب قلقاً للأميركي والإسرائيلي، ويدفع نتنياهو ووراءه ترامب إلى البحث في الوسائل الكفيلة بالتخفيف من هذا الضغط، وتجنّب تكريس صورة “الدولة المنبوذة”، “الدولة المُقاطَعة”، “الدولة المُدانة”، “المسؤولين المُلاحقين دولياً”، “المحكومين دولياً”، وصورة “الدولة الراعية” الحامية “المسؤولة”، أميركا.

مع ذلك، وفي البحث عن آليات تطبيق قرارات وقف النار، تقف إسرائيل موقفاً متشدّداً رافضاً مشاركة تركيا في القوة الدولية الأمنية التي ستتسلّم أمن القطاع برعاية وإدارة وإشراف أميركي. المشكلة مع تركيا كبيرة: مشكلة النفوذ الإقليمي، العلاقات من روسيا إلى جورجيا إلى إيران إلى أوكرانيا، وهذا عزّز ثقة أميركا ترامب بها وبالرئيس رجب طيّب أردوغان. مشكلة الدور في سورية، الدور المهم الذي تعتبره إسرائيل تحدّياً لها، من خلال الاستعداد التركي لتقديم الدعم المفتوح للرئيس أحمد الشرع وحكومته، لا سيّما عسكرياً، والحضور الفاعل في التركيبة الجديدة، وبشكل خاص في مناطق شمالي سورية، والمشكلة التركية الكردية، ويتناقض هذا كله مع أهداف إسرائيل التي تعلن أنها تعيد تشكيل الشرق الأوسط، ولا تريد شريكاً قوياً أو منافساً قوياً، فكيف بتركيا!

أصدرت النيابة العامة في إسطنبول، أخيراً، مذكّرة توقيف بحق 37 مسؤولاً إسرائيلياً، منهم نتنياهو ورئيس الأركان إيال زامير، ووزير الأمن يسرائيل كاتس، ووزير الأمن القومي بن غفير، وقائد البحرية دافيد ساعر سلامة، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، وقتل الطفلة هند رجب، واستهداف أسطول الصمود العالمي لكسر الحصار عن غزّة. وقال نقيب المحامين ياسين شاملي: “إسرائيل لا تشكّل تهديداً للفلسطينيين فحسب، بل للإنسانية جمعاء. وهاجمت خلال العامين الماضيين دولاً عديدة، بما في ذلك لبنان وسورية وتونس وإيران وقطر واليمن والعراق ومصر…”. قرار الاعتقال رمزي. لن يزور أي من المتّهمين تركيا، لكنّه خطوة متشدّدة من الجانب التركي، دفعت وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، إلى الإعلان: “في تركيا أردوغان أصبح النظام القضائي منذ فترة أداة لقمع المعارضين السياسيين، واعتقال الصحافيين والقضاة ورؤساء البلديات. إسرائيل ترفض بازدراء الحيلة الدعائية التي خرجت أخيراً من مدرسة الديكتاتور أردوغان”.

قد تُخطئ تركيا وغيرها، وقد تتوتّر العلاقات والمواقف بين الدول ثم تهدأ، وقد تصل إلى حروب. في المرحلة الحالية، يتمتّع أردوغان بدور كبير وعلاقة شخصية وسياسية ومصلحية مع ترامب في المنطقة، وهذا أمر لا تريده إسرائيل أبداً التي لم “تبلع” بعد اتفاق غزّة، بل تريد استكمال الحرب والسيطرة على “أنفاق غزّة” كلّها وتحقيق أهدافها. لكن المعادلة الآن تقضي بقبول “لعبة ترامب” التي في جوهرها وفي مصير غزّة لا تختلف عن هذه الأهداف. أمّا أن يقول ساعر ما قاله، فهو أصلاً ساقط من أساسه. ليس بمقدور أي إسرائيلي أن يتحدّث عن القمع ودولته تمارس الإبادة الجماعية، وعن قتل الصحافيين، وهي من قتلت مئات منهم ومن المراسلين والمصورين. أمّا عن استهداف القضاة، فهذا آخر بدع إسرائيل المُدانة من المحكمة الجنائية ومحكمة العدل الدوليتين، وقد هدّدت قُضاتهما وشاركها في ذلك ترامب، وعمل مسؤولوها على إقالة المدّعية العامة في الداخل، أو تعديل نظام المحكمة التي يُحاكم أمامها نتنياهو للتهرّب من إدانته. وأوقف بن غفير المدّعية العامة العسكرية، في إطار التحقيق في تسريب مقطع مصوَّر يظهر تعدّي جنود الاحتلال على معتقل فلسطيني في سجن عسكري عام 2024. وقد اختفت المدّعية العامة قبل أيام، واعتقد كثيرون أنها قُتلت أو انتحرت، وهذا كله لأنها كشفت جريمة حرب هزّت إسرائيل وشوّهت صورتها.

وأن يتدخّل ترامب علناً في الكنيست ليطلب العفو عن نتنياهو، ثمّ يجدّد الطلب من إسرائيل ويقول: “الرجل لا يُعامل بشكل جيد. هذا بطل”. فهل هذا احترام للعدالة والقانون؟ وممارسة الإبادة واقتلاع شعب من أرضه “عمل أخلاقي وإنساني وقانوني”، وتحرك العالم ضدّه “دعاية”؟ إسرائيل المسيطرة على الإعلام باتت مُدانة، تشكو الإعلام والصورة والصوت.

تعطي المشكلة الحالية مع تركيا فكرة عن أمرَيْن: خلاف آني مرحلي أميركي – إسرائيلي، يقرّ الإسرائيليون به، ولكنّهم سيبقون يتحايلون عليه ويلعبون لعبة الوقت لاستيعاب مفاعيله من دون التراجع عن الأهداف الكبرى: السيطرة على الضفة الغربية، كما قالت وزيرة النقل ميري ريغيف: “نمضي في تنفيذ خطوات الضمّ الفعلي للضفة الغربية على أرض الواقع، وفي النهاية ستكون هناك سيادة إسرائيلية، والإدارة الأميركية تدرك أنه لا توجد طريقة أخرى، للأسف ليس هذا الوقت المناسب. لكنّه سيحدث”. والتفاعل مع ما يُطرح بشأن غزّة من خلال تركيبة جديدة بقيادات فلسطينية من خارج تركيبة السلطة و”حماس”، حالة فلسطينية شكلية، “مجلس سلام” بقيادة ترامب، وخطة “استثمار” غزّة وتطويرها التي تحدّث عنها منذ أسبوعين صاحبها جوزيف بيلزمان.

“الوجود هو مقاومة”، كما قال الصحافي البريطاني أوين جونز، في تعليقه على الممارسات الإسرائيلية الإرهابية في غزّة ضد الفلسطينيين، والإشادة بإصرار هؤلاء على الوجود والتمسّك بأرضهم. المعركة طويلة ودماء كثيرة في الطريق، والعرب واهمون ويتصرّفون كأنهم غير مستهدفين، ويُخرجون أنفسهم من دائرة التأثير.

مقالات ذات صلة