الاحتلال والعميل المحلي…النهاية دائما سيئة

إحسان الفقيه

حرير- يذكر المؤرخون أن الملك الفارسي سابور الثاني (أو شابور) كان قد حاصر الملك الضيزن بن معاوية ملك الحضر ثلاثة أعوام، ولم يستطع اختراق الحصن، فاطلعت النضيرة بنت الملك الضيزن يوما على سابور فعشقته لحسنه، فأرسلت إليه أنها تدله على ثغرة يدخل منها على أن يتزوجها ويؤثرها على نسائه، وقد كان، فدخلوا المدينة وقتلوا الضيزن.

وفي ليلة عرسها ظلت ساهرة لم تنم، فسألها سابور عن ذلك، فشكت له خشونة الفراش، على الرغم من أنه من حرير محشو بزغب النعام، فنظر إلى ورقة آس قد التصقت ببطنها فتناولها فسال الدم من موضعها لرقة جلدها، فسألها: بم كان أبواك يغذيانك؟ قالت: بالمخ والزبد وصفو الخمر والشهد، فقال: إن كانت هذه حالتك معهما وفعلتِ بهما ما فعلتِ، فلن تصلحي لأحد بعدهما، فأمر بها فعقدت ضفائرها في فرسين، فركضا حتى قطعها إربا.

ومن الحضر والعمالة للفرس، إلى بغداد حاضرة الخلافة العباسية، حيث محمد بن العلقمي، وزير الخليفة المستعصم، ذلك الوزير الذي تآمر مع التتار لاجتياح بغداد، ليتم تنفيذ واحدة من أبشع المجازر البشرية في التاريخ. قوّض بنيان الدولة من الداخل، إذ عمل على إضعاف الاقتصاد بتبديد أموال الخزانة في الحفلات والولائم والتفاهات، وهو أمر كان يهواه الخليفة المُغيّب، وسعى إلى إضعاف الجيش حيث حارب الجند في أرزاقهم وأسقط أسماءهم من الديوان وأفقرهم حتى تسولوا في الشوارع، وقام بخفض عدد قوات الجيش من مئة ألف إلى عشرة آلاف.

وما ان اطمأن إلى إضعاف الدولة، راسل أسياده التتار لاجتياح البلاد ودعمه في إقامة ملكه على أنقاضها، وإمعانا في الخيانة نهى الخليفة عن قتال التتار وأوهمه أنهم راغبون في الصلح، على أن يكون نصف خراج العراق لهولاكو والنصف الآخر للخليفة. تمت الخيانة، وغدر التتار بالخليفة والأمراء والأعيان وأهل بغداد، وارتكبوا مذبحة بشعة، وحسبك ما قاله المؤرخون بهذا الصدد: «وعادت بغداد بعد ما كانت أنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة».

لم ينل ابن العلقمي مبتغاة، فقد تنكّر له التتار وأذلوا ناصيته حتى كان صعاليكهم يدخلون مجلسه بالخيول ويتبولون على فراشه، فمرت به عجوز رأت أمارات الذل عليه فقالت: أهكذا كان يعاملك بنو العباس؟ فمات كمدا على ما ضيع، بعد أن ارتمى بأحضان من لم يرحموا قومه ولم يرحموه.

إنها قصة العمالة المتكررة عبر العصور، العميل المحلي الذي يبيع قومه للغزاة من أجل الحظوة أو السلطة، وفي النهاية يتنكرون له ويتخلون عنه، بعد أن يغدو ورقة محروقة لا نفع لها. ومما يثير الدهشة، أن العميل المحلي لا يتعظ بمصير المتعاونين مع الغزاة على مرّ العصور، ويصر على أن يصعد في سُلّم الجاه أو المال أو النفوذ من خلال دهس بني قومه لحساب المُحتلّ، على الرغم مما جرت به عادة الغزاة والمحتلين من التخلي عن عملائهم. العميل المحلي أعمى، مخطوف بالوعود البرّاقة التي يمنحها له الغزاة والمحتلون، يركض صوْبها ولو نال سخط الشعب بأسره، فما يشغله هو السلطة وزمام القوة والسيطرة، لا الصورة الذهنية التي سوف تخلد في أذهان الأجيال عن عمالته وعمله الدؤوب ضد أبناء شعبه.

لدينا حالة طازجة لم يزل دخانها يتمدد في الأفق، وهي العصابات المسلحة في غزة، والتي صنعها وشكّلها الاحتلال الإسرائيلي، لتضرب القضية في الخاصرة، وتغدو يد العدو التي تمتد إلى الداخل، من دون أن تكلفه طلقة واحدة، فقط هو الوعد بالسلطة والنفوذ. عصابات ياسر أبو شباب وأخواتها، ليست فصائل ذات رؤية وطنية مغايرة للمقاومة الفلسطينية، حتى يتم التعامل معها باحترام وتفهّم، بل هي أداة إسرائيلية تعمل على تمكين الاحتلال من خلال مناهضة المقاومة المشروعة، والقيام بأعمال استخباراتية لصالح الاحتلال، والقيام بأعمال أقل ما توصف بأنها خيانة عظمى، تستهدف تفكيك المجتمع، وضرب لُحمته بإثارة الفوضى والشغب وإطلاق النار على المدنيين، ونهب المساعدات الإنسانية، لخلق أوضاع تجعل غزة غير قابلة للحياة. وفي ظل الأمنيات التي كانت ترفل تحتها هذه العصابات، جاءت اتفاقية وقف الحرب لتبدد آمال عصابة أبو شباب وأخواتها، فعلى الرغم من أن الاحتلال يتبنى هذه الميليشيات إلا أنه سرعان ما خذلها فور الإعلان عن الاتفاق، فأعلن المتحدث السابق باسم الاحتلال، أن الميليشيات المتعاونة مع الجيش الإسرائيلي لن تدخل إلى إسرائيل، وعليها مواجهة مصيرها، وأن الجيش لم يجبر أحدا على قتال حركة حماس، وعليها تحمل عواقب قراراتها. رفض جيش الاحتلال بشدة مقترحا للشاباك بنقل هذه الميليشيات إلى معسكرات مغلقة داخل منطقة غلاف غزة، معللا ذلك الرفض، بأن الخطر الذي تشكله هذه العناصر على المستوطنين الإسرائيليين يفوق أي التزام بحمايتهم.

الصورة التي تظهر بها تلك الجماعات لدى الأوساط الإسرائيلية تؤكد أنها ليست سوى جماعات وظيفية، تنفذ أهدافا للاحتلال، وأن الجيش لن يضحي من أجل حمايتها ولو بجندي واحد. يقال إن الزعيم النازي هتلر سُئل: من أحقر الناس الذين قابلتهم في حياتك؟ قال: أحقر الناس الذين قابلتهم في حياتي هؤلاء الذين ساعدوني على احتلال أوطانهم. أول من يحتقر الخائن هو من استعمله واستخدمه ووظّفه، لأنه يراه كائنا وظيفيا خائنا لبني وطنه، ومن يسهل عليه خيانة قومه يسهل عليه خيانة من استعمله، لذلك رفض نابليون بونابرت مصافحة ضابط نمساوي عميل، بل ألقى الذهب في وجهه قائلا: هذا الذهب لأمثالك، أما يدي فلا تصافح رجلا يخون بلاده.

المحتل يتنكر للعميل المحلي لأنه يستخدمه في المهام القذرة، لكن بعد انكشاف عمالته يصبح الاحتفاظ به عبئا سياسيا وأمنيا. ينظر المحتل إلى العميل المحلي نظرة فوقية، فعلى الرغم من أن هذه العصابات خدمت الاحتلال، إلا أن الاحتلال لا ينسى أنهم عرب من أهل فلسطين الأعداء، فمهما تزلفت هذه الميليشيات وأدت مهامها الموكولة إليها فهي في النهاية فلسطينية عربية في نظر الإسرائيليين.

ليست هناك شراكة حقيقية بين محتل وعميل محلي، فقط هي علاقة استغلال مؤقتة، ومن يؤثر العمالة للغزاة والمحتلين فإنما يختار الذل من الطرفين: من شعبه الذي ستتعاقب أجياله على احتقار ذلك العميل، والذل من قِبل المحتل الذي يوظفه ويتحكم فيه. هذا هو المصير الأسود للمتعاونين مع الغزاة المحتلين دائما، فالولايات المتحدة عندما انسحبت من أفغانستان تخلّت عن آلاف المترجمين والعملاء المحليين، وفي الجزائر رفضت فرنسا استقبال المتعاونين معها داخل الجزائر، رغم وعود الحماية، والقائمة طويلة، جميعها تحمل القصة ذاتها، والنهاية نفسها.

مقالات ذات صلة