
مروان البرغوثي وصفقات تجريح الأمل
جواد بولس
حرير- انتهت يوم الإثنين الفائت مراسم الإفراج عن 1968 أسيرا فلسطينيا من سجون الاحتلال الإسرائيلي، من بينهم 250 أسيرا من أصحاب أحكام المؤبدات وعدد من المحكومين بأحكام عالية، أما الباقون فكانوا من أسرى قطاع غزة الذين اختطفوا واعتقلوا أثناء الحرب، واحتُجزوا من دون أن يحاكَموا أمام أية هيئة قضائية. وبعد تنفيذ هذه الصفقة يقدّر عدد الأسرى المتبقين في سجون الاحتلال بأكثر من 9100 أسير يُحتجزون في السجون المركزية، من بينهم حوالي 3400 أسير إداري و52 أسيرة وحوالي 400 طفل، في حين لا يزال المئات محتجزين في معسكرات اعتقال تابعة للجيش، ولا تتوفر معلومات دقيقة عن أعدادهم وعن ظروف اعتقالهم.
عاشت فلسطين حالة من الترقب غير المسبوق في انتظار أعداد الأسرى وأسماء الذين ستشملهم صفقة التبادل؛ وكانت التوقعات، لاسيما بين ذوي الأسرى، كبيرة بناء على عدد الرهائن الإسرائيليين الكبير الجاري التفاوض عليهم مع حماس. أدّى اعلان حماس عن قائمة المُحَرّرين إلى موجة من مشاعر الفرح الذي يصاحب عادةً مشاهد احتضان الأهل لأبنائهم المُحَرّرين. بيد أن الفرح، هذه المرة، كان «فرحًا حامضا» وغلبت عليه مشاعر الخيبة أو الشعور بإضاعة فرصة قد لا تتكرر قريبا.
احتل موضوع صفقة التبادل صدارة الأخبار وأحاديث الناس؛ وبقيت تساؤلات الناس بحاجة إلى من يجيب عليها؛ فلماذا لم تصر حماس على إطلاق سراح جميع النساء والأطفال كما جرى في بعض الصفقات السابقة؟ ولماذا رضيت بالإفراج عن قسم من الأسرى المدنيين الذين اختطفوا من غزة أثناء الحرب، وليس جميعهم، وبينهم رموز مثل الطبيب حسام أبو صفية؟ ولماذا فشلت بشمل عدد كبير من أبرز قيادات فصائل الحركة الأسيرة وقدماء الأسرى ومنهم، على سبيل المثال، مروان البرغوثي وأحمد سعدات وعبدالله البرغوثي وإبراهيم حامد وعباس السيد وحسن سلامة وناصر عويس وعاهد غلمة والعشرات غيرهم؟ ولماذا قبلت حماس باستثناء جميع الأسرى من فلسطينيي الداخل ومنهم من قضوا أكثر من ثلاثين عاما داخل السجن؟ ولماذا وافقت على إبعاد المئات من كوادر الفصائل المحررين إلى خارج فلسطين، وكانت قضية الإبعاد، القسري أو الطوعي، مسألة محرمة في قاموس الثورة الفلسطينية؟
معظم الذين قابلتهم قبل الإعلان عن تفاصيل الصفقة سألوني عن حظوظ مروان البرغوثي واحتمالات شمله فيها؛ أما بعد تنفيذ الصفقة فكانت التحليلات لدى معظمهم مختمرة والاتهامات جاهزة. فحماس، وفق قناعة منتقديها، تخلت عن أهم ورقة ضغط حصلت عليها بعد السابع من أكتوبر 2023، ولم تستنفدها، مقابل أن ترضى عليها أمريكا ومعها حلفاؤها ويقبلوها كعنوان للتفاوض لا حول قضية الأسرى وحسب، بل حول مصير غزة في مرحلة «اللا حرب» الملتبسة المقبلة.
لست في معرض مناقشة قرارات حماس وخياراتها في هذه المسألة؛ فما يعنيني في هذه العجالة هو ما سمعته من الناس حول قضية مروان البرغوثي، والدوافع أو الجهات التي كانت وراء عدم الإفراج عنه، لا في هذه الصفقة ولا في سابقاتها.
يؤمن البعض بأن قيادات حماس غير معنية بالإفراج عن البرغوثي، حتى إن صرحت في كل الصفقات السابقة، وهذه المرة أيضا، عكس ذلك؛ ويؤمن آخرون بأن بعض قيادات فتح نفسها غير معنية بالإفراج عن زميلهم القيادي في الحركة.
من الواضح أن من يكيلون هذه الاتهامات لا يمتلكون البراهين والأدلة على صحتها؛ سوى حدسهم ومنطقهم، الذي قد يكون منحازا سياسيا، ومشاعرهم الشخصية وتزودهم بمعلومات قد تكون وراءها جهات معنية بتسميم الفضاءات الفلسطينية وزرع الشقاقات بين المواطنين. بالمقابل، ليس صعبا الاستنتاج أن إسرائيل تبقى الجهة الأولى، أو ربما الوحيدة القادرة والمعنية في إبقاء مروان البرغوثي داخل السجن.
اعتقل مروان البرغوثي عام 2002 وأدين في المحكمة المركزية في تل أبيب بتهمة تأسيسه وقيادته لتنظيم «كتائب شهداء الأقصى» وكونه مسؤولا عن عدد من العمليات العسكرية التي نفذتها عناصر الكتائب ضد أهداف إسرائيلية أبان انتفاضة الاقصى؛ وحكمت عليه المحكمة بالسجن الفعلي لفترة خمسة مؤبدات وأربعين عاما. لم يعترف مروان البرغوثي بشرعية المحكمة، مؤكدا أنها أداة من أدوات الاحتلال، وأعلن وقتها مقاطعته لاجراءات المحكمة وأصر على شرعية نضاله ضد الاحتلال، وكونه قائدا فلسطينيا يحترم تضحيات شعبه.
ما زلت أذكر ذلك الصباح من أبريل، عندما زرته في معتقل المسكوبية في القدس، بعد ثلاثة أيام من عملية اختطافه، وجلسنا لأكثر من ساعتين. كان همّه الأول أن يطمئن على عائلته ورفاقه في الحركة، تحدث ببطء وقال: «لم أنم يا جواد لأكثر من أربع وعشرين ساعة. إنهم يمنعون عني النوم بأساليب شيطانية. صدّقني، هذه أبشع صنوف التعذيب»، كان منهكا وواضحا وقال: «إنهم يخططون لضرب شرعية الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية من خلال اعتقالي ومحاكمتي، ويستهدفون نزع شرعية أكبر تنظيم في الثورة – فتح، ومعه نزع شرعية مؤسسات الثورة كلها ومنجزاتها». كان يتحدث بوجع وبحزم لأنهم، قال: «يريدون محاكمتي كإرهابي وكابن لتنظيم ارهابي وكمقاتل في ثورة إرهابية. لن نعطيَهم ذلك ولن نعترف لا بشرعية قضائهم ولا بمحاكمهم». كان خيار مروان الدفاع من موقعه الجديد في الزنازين، عن الشرعية الفلسطينية وعن كرامة المواطن والوطن وعن الأمل. لم يتراجع عن ثوابته الوطنية، رغم تعذيبه ورغم محاولات كسره أو تدجينه، أو زجه في تسويات مهادنة، بل استمر رافعا من زنزانته شعاره الأبرز: «سيكون آخر يوم في عمر الاحتلال هو اليوم الاول في مسيرة السلام». وعندما أصيبت الحركة الأسيرة بداء الانقسام وضعفت وحدتها/حصنها، سعى هو وثلة من قياديي الفصائل الموجودين معه في السجون، وبضمنهم حماس، إلى توحيد صف الحركة وكلمتها، ووقعوا عام 2006 على «وثيقة الأسرى للوفاق الفلسطيني» التي تُعدّ من أهم الوثائق الفلسطينية السياسية في تجسيد الوحدة، وفي الدفاع عن الشرعية الوطنية، وتحصين الحق الفلسطيني في النضال ضد الاحتلال.
مرت السنون وبقي مروان البرغوثي على مبادئه، ومضت إسرائيل في حربها ضد رموز الشرعية الفلسطينية ومحو مصادر الأمل الفلسطيني. لقد ساهمت حماس من جهة، والسلطة الفلسطينية من جهة ثانية، في تأزيم الحالة الفلسطينية، وإنضاج أجواء الالتباس وإدخال المواطنين في حالات من اليأس وفقدان الثقة والعزوف عن الانخراط في العمل ضد الاحتلال وعملائه.
إذن، هي إسرائيل التي تخشى الإقدام على خطوة من شأنها أن تبعث الروح في جسد فلسطيني متهالك؛ هذا ما يعرفه المعارضون من قيادييها بيقين أن الافراج عن البرغوثي، الذي ما زال يحظى بتأييد شعبي عابر للفصائلية التقليدية، قد يفضي إلى توليد حالة ارتدادية تستقطب الأطراف المنكفئة والبعيدة والمستبعدة ويعود الاحتلال إلى واجهة الهم الفلسطيني الأوحد. اسرائيل هي المعنية بإبقاء البرغوثي بالسجن؛ أما قضية عدم الافراج عنه وعن إخوانه الأسرى، في صفقات حماس السابقة وفي هذه الصفقة، فهي مسألة أخرى بحاجة إلى تمحيص وتوضيح.
قد تدّعي حماس، وبحق، أن الصفقة تمت، هذه المرة، في ظروف ومعطيات غير مسبوقة ومختلفة عما كان في جميع صفقات التبادل الماضية. فهدف الصفقة الأسمى كان الاتفاق على وقف إطلاق النار وبعده عودة النازحين وتأمين المساعدات والشروع بإعادة إيواء المقتلعين من بيوتهم. لن يختلف اثنان على صحة هذا الكلام؛ بيد أن المتسائلين ومنتقدي الصفقة يجيبون بأن حكومة إسرائيل وافقت على استئناف التفاوض مع حماس، لأنها كانت على شفا الانهيار والإفلاس السياسيين، داخليا وعالميا. ولو تمسكت حماس بموقف أصلب لنجحت بتحصيل أضعاف ما حصلته فعليا. فهل كان وقتئذ سيفرج عن مروان البرغوثي؟ برأيي لا. لأن معركة جميع «المتورطين» في المشهد الفلسطيني الحالي، تدور حول ماذا سيحصل في «اليوم التالي»، والسؤال، كان وسيبقى، من يملك شرعية التفاوض والحكم في اليوم التالي؟