
الدورة الثمانون للجمعية العامة… حفنة من المشاهد الباقية
عبد الحميد صيام
حرير- تكمن أهمية الدورة الحالية للجمعية العام للأمم المتحدة في أنها تأتي في الذكرى الثمانين لإنشاء الأمم المتحدة. ومن حق الدول الأعضاء مراجعة أدائها عبر الثمانية عقود، والبحث عن مواقع الفشل وميادين النجاح. ولا شك أن الفشل الأكبر كان في ميدان استتباب السلم والأمن الدوليين عبر العالم من شرقه إلى غربه، حيث شهدت الثمانين سنة الماضية أكثر من 200 حرب، سقط فيها أكثر من الذين سقطوا في الحرب العالمية الثانية، حروب كبرى وصغرى ومتوسطة. وأكبر جريمة ارتكبت بغطاء من الأمم المتحدة هي تقسيم فلسطين وزرع كيان هجين في قلب الوطن العربي. بعض النزاعات متواصل من عمر الأمم المتحدة مثل فلسطين وكشمير، وبعضها منذ أكثر من خمسين سنة مثل، قبرص، وبعضها أقفل الملفات ووجد طريقه للحل، خاصة حروب التحرر الوطني من الاستعمار ونهاية الفصل العنصري. تضاعف عدد أعضاء الأمم المتحدة نحو أربع مرات. هناك جروح ما زالت مفتوحة حتي اليوم مثل، فلسطين والصحراء الغربية وكشمير والسودان واليمن وليبيا وهايتي والروهينغا في ميانمار وغيرها.
ونستطيع أن نقول إن المنظمة الدولية حققت كثيرا من الإنجازات في ميادين التنمية وحقوق الإنسان، وأنتجت سلسلة من الاتفاقيات الدولية المهمة في ميادين حقوق المرأة والطفل، والأقليات والمهاجرين والسكان الأصليين، وذوي الاحتياجات الخاصة. كما أنها جرّمت العنصرية والكراهية والتهميش، وساهمت في إنهاء الاستعمار. وأنجزت الكثير في مجال التعليم والصحة وحماية البيئة، ومكافحة التصحر والتغير المناخي، ومحارية الفقر والعناية باللاجئين والمشردين، ومكافحة الجريمة المنظمة، وتجريم سباق التسلح وتحريم الأسلحة النووية وتقديم مساعدات في حالات الطوارئ وتعمل الآن على موضوع الذكاء الاصطناعي. وهذا غيض من فيض.
لقد تابعت اجتماعات الجمعية العامة منذ زمن بعيد، وفي كل مرة أحاول أن أسلط الضوء على ما يميز تلك الدورة عن سوابقها. وأود أن أقدم بعض المشاهد لما ميّز هذه الدورة.
– رئيسة الجمعية العامة أنالينا بوربيك، التي تعرضت لهجومات عالمية لما قالته عندما كانت وزيرة خارجية ألمانيا، حول شرعية استهداف المعالم المدنية مثل، المستشفيات والمدارس لتدمير الإرهابيين في غزة. وعندما واجهناها بهذه الحقيقة تلعثمت وأحرجت واضطرت للتلفيق والهروب. في كلمتها الافتتاحية للدورة كادت تبكي وتبكينا وهي تروي قصة هند رجب، وكأنها تريد أن تبيض صفحتها السوداء. قالت بصوت متهدج: «عشرات الآلاف من الأطفال في غزة فقدوا حيواتهم، عشرات الآلاف من الأحلام التي لم تتحقق. كثيرون قتلوا وحتى لم يعرف العالم أسماءهم، إلى أن سمعنا صوتا واحدا عاليا لم نستطع تجاهله. صوت هند رجب الذي سجل في مكالمة هاتفية مع الهلال الأحمر، بينما كانت القذائف تتساقط عليها وقتل عمها وعمتها بجانبها. نادت مرارا أنا خائفة جدا. أرجوكم تعالوا. حاول المسعفون تهدئتها وحاولوا الوصول إليها. لم يتمكنوا. قتلت هند قبل وصول المساعدة. لقد خذلها العالم». أتمنى أن يكون هذا التغيير حقيقيا وأبديا.
– أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو الرئيس المشارك لمؤتمر حل الدولتين، اعتراف بلاده بالدولة الفلسطينية، وأعلنت دول أخرى اعترافها، مثل بلجيكا وبريطانيا وأندورا وموناكو ومالطا. وصل العدد الآن 157 دولة لكن الدولة الفلسطينية بعيدة المنال. تباكى الرئيس الفرنسي في بداية خطابه على ضحايا 7 أكتوبر، وكأنه يريد أن يتبرأ من ذنب الاعتراف، أسهب في وصف أهوال 7 أكتوبر. وراح يتغزل في إنجازات إسرائيل ويثني على عودة اليهود إلى بلدهم بعد 2000 سنة من التيه «ليبنوا دولة ديمقراطية جميلة». أنظروا إلى جمال وديمقراطية هذا الكيان الفاشي الذي قام على القتل والعنصرية والفاشية. وكأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية تكفير عن ذنب التورط في حرب الإبادة منذ البداية وفشله في التنبه إلى أن ما يجري في غزة تدمير شامل لكيانية الشعب الفلسطيني كليا.
– الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كان الأكثر حضورا في هذه الدورة. الجميع كان ينتظر بفارع الصبر ليسمع ما يقول الرئيس المغرور. خطابه كان الأطول حيث تكلم نحو ساعة كاملة. تميز الخطاب بثلاث صفات: الغرور، المغالطة والتزوير، والجهل. عمل قصة كبيرة من تعطل الدرج الكهربائي والقارئ الآلي. علما أن أحد أفراد طاقمه كان السبب في تعطل الدرج. هاجم الأمم المتحدة وهزأها. وراح يكيل المديح لنفسه وإنجازاته العظمى خلال ثمانية شهور. فقد أصلح الاقتصاد وجذب الاستثمارات وقلل من البطالة وخفض الأسعار ورفع قيمة الأسهم ومنع الهجرة وحاصر الجريمة والمجرمين في واشنطن. وكل ما قاله إما غير صحيح أو مبالغ فيه. وتحدث عن الحروب السبع التي أوقفها، وتبين أن الحقائق لا تؤيد هذه الادعاءات. فهو الذي فجر حربا مع إيران ودعم نتنياهو في حرب الإبادة في غزة، ويهدد الآن بحرب على فنزويلا. ومن قال إن هناك حربا أوقفها بين مصر وإثيوبيا، أو بين كوسوفو وصربيا؟ الحروب توقفت بين أرمينيا وأذربيجان منذ سنتين، وكذلك بين الكونغو ورواندا منذ نحو سبعة أشهر. هو جاء ليحصد ثمار عمل غيره ويدعيه لنفسه. عنصريته تجلت أكثر عندما اتهم عمدة لندن بأنه سيطبق الشريعة الإسلامية، وأن أوروبا كلها مهددة من المهاجرين (المسلمين طبعا)، دون أن يكلف نفسه بالسؤال من الذي تسبب في هجرتهم من بلادهم. أليس النظام الغربي القائم على الاستعمار واضطهاد الشعوب وسرقة ثرواتهم وتدمير بلدانهم؟
– من بين كل الزعماء تجرأ رجب طيب أردوغان ووصف حركة حماس بأنها حركة تحرر وطني وليست حركة إرهابية. لقد عملت الدول التي تدور في فلك إسرائيل على إقحام تعريف الإرهاب حصرا فيمن يقاوم إسرائيل، الكيان الذي قام على الإرهاب والمجازر والتطهير العرقي والتهجير القسري، واحتلال الأرض هو الذي يقرر في زمن الخنوع العربي أن كل من يقاوم العربدة الإسرائيلية يصنف إرهابيا، ومن يجلس في أحضانها يصنف رجل دولة ورجل سلام. هذا هو الزمن الرديء الذي وصلنا إليه بفضل «ملوك الطوائف».
– بعد غياب 58 سنة تحدث رئيس سوري أمام الجمعية العامة. آخر مرة تحدث فيها رئيس سوري كان نور الدين الأتاسي عام 1967 بعد حرب يونيو. خطاب أحمد الشرع كان الأقصر من بين جميع المتكلمين. كانت القاعة شبه فارغة. تحدث بلغة عربية سليمة وبليغة عن عودة سوريا لتأخذ دروها في المجتمع الدولي. ولم ينس في جملته الأخيرة التضامن مع غزة والشعب الفلسطيني.
– سيتذكر العالم ولأجيال قادمة أن هذه الدورة شهدت أكبر صفعة دبلوماسية في تاريخ المنظمة الدولية عندما وقف رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي، نتنياهو، المدان رسميا بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أمام قاعة فارغة تماما. كان أول المتحدثين صباح الجمعة، ما سهل على العدد الأكبر من الوفود عدم الحضور أصلا. وعندما وقف أمام المنصة خرج الباقون. ولم يبق في المقاعد إلا حفنة من الدول لا تملأ حافلة واحدة. البعثة الإسرائيلية أحضرت، كعادتها، نحو 200 ضيف للتصفيق من الطابقين الثالث والرابع. يؤسفنا أن نقول إن دولة عربية أبقت سيدة محجبة جالسة خلف اسم بلدها لتقول إنهم لم يقاطعوا الخطاب… ربما خوفا أو خيانة… لا فرق.
– الرئيس الكولومبي، غوستافو بيترو، كان الأشجع من جميع الرؤساء والأمراء والوزراء فقد دعا في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى «توحيد الجيوش من أجل تحرير فلسطين»، ثم خرج من البناية وانضم لمظاهرة صاخبة مؤيدة لفلسطين في ميدان داغ همرشولد بنيويورك، وخاطب الجنود الأمريكيين قائلا: «لا توجهوا بنادقكم نحو الإنسانية. ارفضوا أوامر ترامب وأطيعوا أمر الإنسانية»، ما دعا واشنطن إلى إلغاء تأشيرته بحجة «التحريض على العصيان وارتكاب أفعال متهورة».
وإلى اللقاء في المخطبة السنوية المقبلة.