
لاري إليسون والاستحواذ على تيك توك: ذراع «إسرائيل» الطويلة

في السبعينيات، كان قطاع التكنولوجيا في الولايات المتحدة على حافة الدخول في حقبة الطفرة التي ستضع البلاد في مقدمة صناعات التقنية والإنترنت على مستوى العالم. عام 1975، أسس بيل غيتس وبول ألن شركة مايكروسوفت التي ركزت نشاطها على تطوير لغات البرمجة للحواسيب الشخصية. بعد عام، سيطلق العشريني ستيف جوبز حاسوب «آبل 1»، لتسهيل استخدام هذه الأجهزة على متوسط المستهلكين. وفي 1977، سيظهر الشاب لاري إليسون، بمشروع أقل تشويقًا وإثارة للاهتمام يسمى «أوراكل»، غايته توفير خدمات تخزين البيانات للشركات الكبرى التي كانت توشك الدخول لعصر الإنترنت. لكن سرعان ما سيصبح الأمريكي اليهودي الثلاثيني ثاني أغنى رجل في العالم، ويرتبط اسمه في شبابه بالمجون والإنفاق الباذخ. واليوم، وهو في الثمانينيات من عمره، يترافق ذكره مع الحزب الجمهوري، وتحديدًا الرئيس الأميركي دونالد ترامب، و«إسرائيل».
فيما يشبه الكليشيه، تروي كل شركة رائدة في قطاع التقنية قصة «ملهمة» عن نفسها. فيسبوك، تقول الحكاية، التي لم تكن سوى مشروع جامعي لشاب في مقتبل حياته الطلابية، تحول عبر «المثابرة» لمنصة تضم أكثر من مليار إنسان وتؤثر في حياة البشرية جمعاء. آبل، التي أسسها جوبز من كراج منزل والديه بالتبني، باتت عنوانًا للابتكار في صناعة الهواتف الذكية والحواسيب الشخصية. وأوراكل، تقول القصة الريادية ذاتها، بدأها شاب ربّاه أقرباؤه بعد عجز أمه عن إعالته في نيويورك، بكلفة لم تتجاوز 2000 دولار، لكن «تصميمه وانضباطه الذاتي» وصلا بثروته لأكثر من 300 مليار دولار اليوم.
لكن الواقع يختلف قليلًا. إذ لم تكن أوراكل لتتطور على نحو سريع وكاسح لولا وقوف الدولة الأميركية لجانبها، أو للدقة وكالة المخابرات المركزية، السي آي إيه. تقول وثائق الوكالة إنها اجتمعت مع إليسون عام 1975 لتأخذ فكرة أوضح عن إمكانية استفادة الوكالة من مشروعه. ورغم أن أسماء الأشخاص جرى حذفها من الوثيقة، إلا أن السي آي إيه ستعاود الظهور للسطح من جديد في 2024، وتتحدث علنًا عن تلك العلاقة.
خلال مؤتمر نظمته أوراكل في لاس فيغاس حول الذكاء الاصطناعي ذلك العام، عرضت لانايا جونز، التي كانت رئيسة قسم المعلومات في الوكالة قبل خمسين عامًا، التحديات التي تواجه السي آي أيه في عصر التقدم التكنولوجي، وأشادت بشراكة أوراكل مع الوكالة في عالم الذكاء الاصطناعي. «نحن متحمسون للغاية لأن الأمن لا يقل أهمية بالنسبة لشركة أوراكل عن أهميته لوكالة المخابرات المركزية، وكذلك مجتمع الاستخبارات»، تقول جونز. الحقيقة أن نجاح أوراكل لم يكن ليتحقق لولا العطاءات التي أُغدقت عليها مبكرًا من المخابرات الأمريكية، يقر أستاذ الإدارة العامة في هارفرد، ستيفن كلمان، في مقال يعبر فيه عن خشيته من قدرة الحكومة الأميركية على اختيار الناجحين في عالم الاقتصاد.
في النصف الثاني من الثمانينيات، طُرحت الشركة للاكتتاب العام. وخلال عام، أصبحت الأولى دوليًا في مجالها، بقيمة وصلت لـ100 مليون دولار وفروع في 55 بلدًا في العالم. توزعت وتوسعت استثمارات إليسون بعدها من قطاع التكنولوجيا السحابية إلى السيارات؛ إذ يعد مستثمرًا بارزًا في شركة تسلا، ومن ثم إلى عالم التواصل الاجتماعي الافتراضي؛ حيث كان من أوائل المانحين لشركة إكس، تويتر سابقًا، بمبلغ وصل لمليار دولار.
لم تضع أوراكل مالكها في دائرة الضوء الصحفية كما فعلت فيسبوك بزوكربيرغ أو آبل بجوبز، بحكم أن خدماتها لم تكن موجهة لجمهور المستهلكين النهائيين، بل للشركات. لعقود، أعفى ذلك إليسون من الدخول في نطاق اهتمام الكونغرس الذي لم يتوقف أعضاؤه عن تنظيم جلسات الاستماع الساخنة لفيسبوك وتويتر وتيك توك وقبلها مايكروسوفت، بسبب التأثير المباشر لخدماتها جميعًا على خصوصيات عموم الناس وحياتهم وأمن معلوماتهم.
لكن بقاء أوراكل في الظل لم يدم طويلًا.
الهيمنة على تيك توك
اليوم تهيمن أخبار إليسون وشركته على النقاش التقني في الولايات المتحدة بعد أن عبّر الرئيس الأميركي صراحة عن دعمه للشركة في سعيها شراء تطبيق تيك توك الصيني. «لاري إليسون قد يكون أحد المنخرطين في الصفقة، إنه شخص عظيم»، قال ترامب في سياق حديثه عن الشركات الأميركية المرشحة لوضع اليد على التطبيق الذي يحظى بشعبية واسعة في أوساط صغار السن الأميركيين، بحجم مستخدمين يقترب من 136 مليونًا في الولايات المتحدة وحدها.
ورغم أن المبرر المعلن للصفقة هو الحفاظ على الأمن القومي والخشية من وقوع بيانات المستخدمين في يد الحكومة الصينية «العدوة»، إلا أن السبب الحقيقي أبعد ما يكون عن ذلك. بالنسبة لترامب، يمثل تيك توك نافذته للوصول لفئة المصوتين الشبان ومحاولة تغيير مزاجهم الانتخابي. هؤلاء باتوا يشكلون مؤخرًا ما يشبه بيضة القبان في الانتخابات الأميركية المستقطبة بحدة والمتقاربة في نتائجها آخر عشر سنوات؛ إذ تبلغ نسبتهم من إجمالي الناخبين 21% بعدد يصل لـ46 مليونًا مقابل 39 مليونًا من كبار السن، ويفضل غالبيتهم تيك توك على بقية منصات التواصل، والأهم أن غالبيتهم تميل للديمقراطيين بنسبة 61%. ساهمت تلك الفئة العمرية (18-29 عامًا) بالفعل في نجاح جو بايدن في انتخابات 2020. والحال كذلك، يتصور ترامب واليمين أن التحكم في محتوى تيك توك سيرفع فرصهم للاحتفاظ في السلطة؛ نصيحةٌ يقول الرئيس إن الناشط اليميني الذي جرى اغتياله في أيلول الماضي، تشارلي كيرك، هو من قدمها له.
لكن السياسة الأميركية ليست محض ساحة للتدافع الأيديولوجي الداخلي، بل هي في الجوهر ميدان مفتوح لشبكات المصالح الخارجية، وأهمها كما هو معلوم «إسرائيل». الأخيرة ومؤيدوها في الطبقة السياسية الأميركية باتوا يستشعرون بالفعل أن شيئًا ما تغير على نحو جسيم في وعي شريحة واسعة من الأميركيين فيما يخص العلاقة بين بلادهم وتل أبيب. هذه الخشية من تزايد النقد، غير المسبوق في التاريخ الأميركي، لـ«إسرائيل»، ليست محصورة في الجمهوريين واليمين بالمناسبة، بل إن أول من لاحظها، وعبر عنها كان الديمقراطيون على خلفية السابع من أكتوبر.
في جلسة حوارية جمعته بالجمهوري ميت رومني، يتفق وزير الخارجية السابق أنتوني بلينكن في أن سبب فشل الأميركيين والإسرائيليين في إيصال «الحقائق» للناس هو تأثير بعض وسائل التواصل الاجتماعي عبر ما تنشره من صور ومقاطع فيديو، ثم يقر الطرفان بأن تيك توك ساهم فعلًا بتعزيز المحتوى المؤيد لفلسطين على نحو يجعل إغلاقه خطوة في الاتجاه الصحيح.
بل إن بايدن بالفعل كان أول من تحدث عن «أخطار تيك توك على الأمن القومي الأميركي». وبالتزامن مع تزايد حالات الاعتراض والاستقالات في الحكومة الفيدرالية على خلفية الانحياز لـ«إسرائيل» والإبادة في غزة، قرر منع تحميل التطبيق على أجهزة الموظفين الفيدراليين. لاحقًا، ذهب ترامب وإدارته، التي يغلب عليها الطابع المسيحي الصهيوني، شوطًا إضافيًا بإجبار شركة بايت دانس المالكة لتيك توك على بيع 80% من ملكية تطبيق تيك توك في الولايات المتحدة لجهات أمريكية، ليكون أبرز المشترين والمشترين المحتملين يهود صهاينة، مثل لاري إليسون، وروبرت مردوخ، مالك شبكة فوكس اليمينية.
أما في «إسرائيل» نفسها، فتدرك الحكومة أهمية الصفقة أكثر من أي طرف آخر، ويصف رئيسها بنيامين نتنياهو وسائل التواصل بـ«أحد أسلحة المعركة». «أهم صفقات الشراء اليوم هما تيك توك وإكس… إن تمكنّا من هذين التطبيقين، فقد تمكنا من الكثير»، يقول نتنياهو في لقاء جمعه بمؤثرين أميركيين، سعى لحشد الجهود للوقوف في وجه «الدعاية» المعارضة لـ«إسرائيل» في الولايات المتحدة.
تضييق الخناق
يتعذر عزل تحركات اليسون الأخيرة عن سياقها المتمثل بحالة اختلال التوازن في ما يسمى بالإجماع الأميركي على دعم «إسرائيل». إذ يبدو أن الملياردير، الذي ظل لفترة طويلة مشغولًا بالهيمنة على تخزين البيانات، قد أدرك أهمية صناعتها وربما احتكارها أيضًا بعد تصاعد النقد لتل أبيب في العامين الأخيرين. فعبر مجموعته سكاي دانس، يدفع بنجله ديفيد لإتمام صفقات شراء ضخمة لبعض من أهم منصات الصحافة في البلاد، فيضع يده على شركة باراماونت المالكة لعشرات وسائل الإعلام والإنتاج الفني، وأبرزها طبعًا شبكة سي بي إس المعروفة ببرنامجها النقدي للسلطات «ستون دقيقة»، وسيسطر كذلك على قناة الأطفال نكلوديون. كما دخل إليسون وعائلته في مفاوضات ما تزال جارية لشراء ذراع إعلامي ليبرالي آخر هو شركة وارنر برذرز المالكة لسي إن إن، والمالكة كذلك منصة الأفلام الأشهر HBO، المتابَعة من فئة الشبان.
يمكن النظر لهذه الصفقات في إطار استراتيجية يمينية مسيحية صهيونية واعية ومتدرجة للهيمنة على منابع النقد لـ«إسرائيل». صحيح طبعًا أن وسائل الإعلام والإنتاج الدرامي الأميركية تعاني بالأساس تركزًا شديدًا في الملكية بيد حفنة شركات منحازة لـ«إسرائيل»، لكن هذا الانحياز ليبرالي الطابع والقيم، أي أنه درج على ترك نافذة، وإن كانت ضيقة جدًا، للخلاف حول السياسات الإسرائيلية، مع التزام، ولو ظاهري، بضرورة دعم حل الدولتين و«السلام».
اليوم، تبدو الصورة أشد قتامة؛ إذ يسعى اليمين الصهيوني الأميركي المهيمن على الإدارة لفرض رؤية موحدة ذات أبعاد دينية توراتية تغلق حتى هذه النافذة وتفرض رواية واحدة ليس على الصحافة فحسب، بل على الأركان المختلفة للحياة الأميركية: في الجامعات وصروح البحث والتعليم حيث تُهَدَدُ المعاهد الأهم مثل هارفرد وكولومبيا بقطع التمويل الفيدرالي بسبب مواقف طلبتها، خصوصًا ما تعلق منها بـ«إسرائيل». وفي منظمات المجتمع ومموليها، حتى لو كانوا يهودًا ليبراليين، حيث يلمح ترامب لاحتمال اعتقال ومحاكمة اليهودي الليبرالي جورج سورس، مالك مؤسسة المجتمع المفتوح (OSF) المموِّلة لمنظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش وعشرات المواقع الصحفية التي تصف «إسرائيل» بنظام الفصل العنصري وسياساتها بالتطهير العرقي. وحتى في هوليوود، الأداة التي تشكل الوجدان الأميركي، والتي خرج عشرات الفنانين فيها عن صمتهم، فوصفوا ما يحصل في غزة على أنه إبادة. وبالتالي ستؤدي صفقات شراء الملياردير إليسون لشركتي وارنر برذرز وباراماونت للهيمنة على أكثر من ثلث الإنتاج السينمائي الأميركي.
«لآلاف السنين كنا شعبًا بلا دولة، اليوم لدينا دولة يحميها الجنود والمجندات الشجعان في جيش الدفاع»، يقول إليسون في سؤال صحفي عن طبيعة علاقته بـ«إسرائيل». «سنفعل كل شيء لدعمهم». بالفعل، في 2017 وحده، احتل إليسون المرتبة الأولى بين المانحين لجيش الاحتلال بإجمالي تبرعات بلغت نحو 16 مليون دولار. واليوم، بعد تراجعه للكرسي الخلفي في قيادة إمبراطوريته، وضع المليارديرة الإسرائيلية الأميركية سافرا كاتس في منصب الرئيس التنفيذي لأوراكل.
منذ السابع من أكتوبر، كانت كاتس مثالًا نادرًا في سيليكون فالي في الجرأة في تأييد «إسرائيل» ودعمها علنًا في وقت حرص فيه بقية أقرانها من مدراء تنفيذيين على محاولة الظهور بمظهر الحياد. «اسمحوا لي أن أخبركم، بعض من أفضل الناس في العالم موجودون هنا في إسرائيل»، تقول في فعالية حول الذكاء الاصطناعي نظمت في تل أبيب.
أما في شبكة سي بي إس التي هيمن عليها، فيتجه إليسون لاختيار الصحفية الأميركية الإسرائيلية باري ويس لقيادة غرفة التحرير، وهي التي أقامت في «إسرائيل» في المرحلة الثانوية ولاحقًا انتظمت في الدراسات النسوية في الجامعة العبرية. بعد مغادرتها العمل في صحيفة نيويورك تايمز الليبرالية، أطلقت ويس منصة «فري برس» الصحفية التي أثارت الجدل بدعمها المطلق لـ«إسرائيل» خصوصا بعد السابع من أكتوبر، بل كانت من أولى وسائل الإعلام التي التقت وروجت لـياسر أبو شباب الذي يتزعم فصيلًا في غزة معاديًا للمقاومة. تتغذى مؤسسة باري ويس تلك على تمويلات من منظمات ومراكز أبحاث داعمة لـ«إسرائيل» أبرزها مركز السلام والاتصال. أسس هذا المركز ويرأسه جوزيف براود المتهم بتهريب الآثار من العراق بعد الغزو الأميركي، ويضم في مجلس إدارته شخصيات صهيونية معروفة مثل دينيس روس، مبعوث الشرق الاوسط السابق.
حلول لاري إليسون في صدارة المشهد الإعلامي فتح النقاش حتى في «إسرائيل» عن تلك القوة الناعمة، أو ربما الخشنة، التي يمتلكها الكيان في عالم التقنية. تذكرنا صحيفة جيروزاليم بوست بعدد من مليارديرات التكنولوجيا ممن باتوا بـ«هدوء العمود الفقري لتمويل آلة الحرب الصهيونية»: من مؤسس واتس آب، الإسرائيلي الأوكراني جان كوم، أحد أبرز المتبرعين للكيان، إلى مايكل ديل، مؤسس المجموعة المصنعة لحواسيب ديل المعروفة والذي يدير مع زوجته منظمة تقدم الدعم الاقتصادي والتمكين للإسرائيليين، ضخت ملايين الدولارات في أماكن مختلفة من الكيان منذ السابع من أكتوبر.
إلى جانب هؤلاء، غابت عن الصحيفة الإشارة لمارك زوكربيرغ، اليهودي الصهيوني الذي ساهمت خوارزميات موقعه بقمع المحتوى المؤيد لفلسطين وفق هيومن رايتس ووتش، فضلًا عن اليهودي الصهيوني سيرجي برين، مدير غوغل ومؤسسها، الذي كشفت وثائق شركته عن تقديمه الدعم التقني في عالم الذكاء الاصطناعي للجيش الإسرائيلي ضمن ما عرف بمشروع نيمبس. بل إن بعض أبرز برامج التجنب وإخفاء الهوية على الإنترنت (VPN) تعود ملكيتها بالكامل لـ«إسرائيل» مثل «إكسبرس في بي إن» و«سايبر غوست».
على الرغم من كل هذا الحضور الذي تملكه «إسرائيل» في عالم التقنية والإعلام، والذي يرقى لدرجة الهيمنة، يبقى أن دخول الصين كمنافس وازن على القطاع ساهم بالفعل بفتح هوة صغيرة ولكن مؤثرة في جدار يريد له الأميركيون الصهيونيون والإسرائيليون على السواء أن يرمم في أسرع وقت؛ ما يجعل تحرك لاري إليسون لشراء تيك توك خبرًا غير عادي في اعتبارات السياسة.
اليوم، يحتل إليسون الذي يمكن وصفه بالإسرائيلي اليميني موقعًا مهمًا في مستقبل الولايات المتحدة. وعلى ما يلحظ موقع وايرد الأشهر في عالم التقنية، تهيمن مؤسسات الرجل على اقتصادي البيانات والانتباه في السوق الأميركية، تمامًا كما فعلت عائلة روكفيلر مع النفط، أو فيندربيلت مع السكك الحديدية. «لاري اليسون»، يعنون الموقع، هو «رئيس الظل في أميركا دونالد ترامب».