نتنياهو: سيعاقِبُ العالم!

سهيل كيوان

حرير- توالت الاعترافات بدولة فلسطين وهذا مهم جدا وله ثقلٌ معنويٌ كبير، فقد ابتهج الفلسطينيون ومعهم أحرارُ العالم في كل مكان. هذه الموجة ما كانت لتحدث لولا فظاعة الجرائم التي يرتكبها الاحتلال في قطاع غزة، والتحركات الشعبية في مختلف دول العالم، وهذا بفضل نقل جزء مما يحدث من خلال وسائل التواصل، وبسبب وجود صحافيين شجعان دفعوا الثمن بأرواحهم وأرواح أسرهم، وهم ينقلون حقيقة الإبادة، وهذا أدى إلى تحركات شعبية ضاغطة على حكومات كثيرة في كل العالم، خصوصاً في القارة الأوروبية وأستراليا وكندا، للقيام بأي فعل يؤكد وقوفها ضد الإبادة وتبرئة نفسها مما يقترفه نتنياهو وعصابته باسم الحضارة الغربية، تحت ذريعة محاربة الإرهاب.

وفي رام الله وبتوجيه من السلطة وحراسة سيارات الشرطة خرج طلاب مدارس ثانوية يوم الثلاثاء في تظاهرة احتفالية، رافعين الأعلام الفلسطينية وصور الرئيس أبو مازن احتفاء بالاعترافات المهمة بدولة فلسطين.

من يدخل في الضفة الغربية يعرف أن حل الدولتين بات مستحيلا، فهنالك حوالي 250 من المستوطنات “الشرعية” و”غير الشرعية”، تستولي على أكثر من 65% من مساحة الضفة الغربية والقدس الشرقية، ويعيش فيها حوالي 770 ألف مستوطن. هذه المستوطنات تُقطع التواصل السكاني بين البلدات والمدن الفلسطينية، فأكثرها أشبه بثكنات عسكرية مغلقة ببوابات وحواجز إسمنتية ضخمة وأبراج مراقبة، كذلك فإن القرى الفلسطينية تعيش في حالة حصار شبه دائم، وبعضهم ممنوع من التجول ليلا، وعرقلة متعمدة للحركة الخارجية في ما بينها، إلا بصعوبة ومخاطرة كبيرة. أي خطأ من سيارة فلسطينية تدخل شارعا يؤدي إلى مستوطنة قد يؤدي إلى عواقب كارثية، بحجة الاشتباه بنوايا سائقها. قد يفاجئك حاجز جديد يعيق الحركة، والسفرة التي تستغرق دقائق، تتحول إلى كابوس لساعات، إضافة إلى الممارسات الاستيطانية اليومية التي يعرفها الجميع برعاية الجيش وقوى الأمن الأخرى.

إعلان الاعتراف بالدولة الفلسطينية مهم جداً، ولكنه يشبه عملية إحياء لموتٍ سريري. الاعتراف المتأخر يبدو كتكفير عما اقترفت هذه الدول الكبيرة والمهمة بحق الفلسطينيين. نتنياهو، لم يبد أي دبلوماسية في رد فعله، بل توعد بأنه سيعاقب الدول التي اعترفت بدولة فلسطين، معتبراً أن هذا الاعتراف الأحادي الجانب مكافأة لحماس، وهو ما قاله الرئيس الأمريكي ترامب. في الحقيقة أنها عقوبة لنتنياهو وعنجهيته وليست مكافأة لحماس، وفي الوقت ذاته هي استرضاء للرأي العام المنتفض في هذه الدول ضد جرائم الاحتلال. المعترفون الجُدد يؤكدون، أنه لا يوجد أي دور لحماس بعد انتهاء حرب الإبادة وفي إعادة بناء قطاع غزة. بعد هذه الاعترافات المهمة، من سيعمل على تطبيق حل الدولتين؟ وكيف سيكون هذا بالاتفاق من خلال المفاوضات مع حكومة ترفض التفاوض أساساً، وتعتبر الاعتراف بحق الفلسطينيين عملا لاسامياً ومعادياً لليهود؟ وهل توجد قوى تستطيع إرغام الاحتلال على قبول حل الدولتين؟ نتنياهو يتوعد، فما الذي يمكنه أن يفعله؟ الحقيقة أنه بالقوة الفائضة التي يملكها يستطيع أن يفعل الكثير..

أولا قد يستدعي سفراء دول اعترفت بفلسطين كي يوبخهم، وغيرها من إجراءات دبلوماسية متعارف عليها، وممكن أن يقلص التعاون الأمني والمخابراتي، لكن هذا سيعود عليه بمزيد من الخسارات على الساحة الدبلوماسية، وهذا سينعكس شعبياً كذلك، فلا يمكن للشعوب الحرة أن تسمح لنتنياهو بأن يملي عليها سياساتها. العقاب الأساسي سيوجه إلى النقطة الأضعف، إلى الشعب الفلسطيني والسلطة في رام الله، من خلال المزيد من تجريد السلطة من قدراتها ونفوذها، وتصعيد قضم الأرض وإعلان السيادة على مناطق مهمة مثل الأغوار، وتوسيع الاعتداءات، من خلال التخريب والهدم بحجج وجود بنية إرهابية في الضفة الغربية. ضم الأغوار يحظى بتأييد داخلي في إسرائيل، ليس فقط من الحكومة الحالية ومركباتها، بل مما يسمى أحزاب الوسط والمركز، والخلاف هو على التوقيت فقط، ولا يُعارض ضم الأغوار سوى قلة ضئيلة من بقايا اليسار. هذا الضم والاعتراف بمزيد من المستوطنات الذي يعني ضم المزيد من الأرض الفلسطينية في تعارض مع القوانين الدولية، يعني أن نتنياهو يدفع بإسرائيل إلى أن تكون نسخة عن نظام الفصل العنصري الآفل في جنوب افريقيا، الذي حوصر لسنوات طويلة، ولم يبق على علاقات معه سوى شقيقته إسرائيل، وأمريكا وبريطانيا وتايوان وبعض الديكتاتوريات. قوطع نظام الفصل العنصري من معظم دول العالم، ثقافياً ورياضياً واقتصادياً، وأحاطت به دولٌ داعمة للشعب الافريقي مثل، أنغولا وموزمبيق، بينما إسرائيل محاطة بدول تقيم معها علاقات تطبيع وسلام مثل مصر والأردن، وأخرى عربية أبعد، مثل المغرب والإمارات والبحرين. هذا قد يفجره نتنياهو بنفسه، إذا ما أصر على إرغام الفلسطينيين على الهجرة من قطاع غزة إلى الأراضي المصرية.

رغم حركة المقاطعةBDS ، لكن حتى الآن لم تُفرض على إسرائيل عقوبات اقتصادية واسعة، مثل تلك التي فُرضت على جنوب افريقيا العنصرية، وهذا ما زال بعيداً، ولكنه بدأ لدى البعض بمقاطعة منتوجات المستوطنات، ومنع مرور بضائع ذات طابع حربي من موانئها. هناك مقاطعات ثقافية ورياضية شعبية لإسرائيل، وهي في طريقها للاتساع، ولكنها حتى الآن وفي أكثرها لم تتخذ الطابع الرسمي، وما زالت بمبادرات شعبية، ومن المقررة الأممية فرانشيسكا ألبانيز، التي دعت الفيفا واليويفا إلى تعليق مشاركة إسرائيل في كرة القدم الدولية. في النهاية انهار نظام جنوب افريقيا العنصري بسبب الحصار الدولي والانهيار الداخلي،

بينما في إسرائيل ما زال هذا الطريق في أوله وتواجهه ألغام كثيرة.

الأوراق بيد نتنياهو وحكومته ما زالت قوية وكثيرة، خصوصاً أنها تحظى بدعم أمريكي غير مسبوق، وبحاضنة داخلية ماضية إلى المزيد من التطرف. هناك تحريضٌ وتصعيد في الملف النووي الإيراني، ونتنياهو يؤكد أن الحساب مع “محور الشر” لم ينته بعد، وأنه يجب منع إيران من امتلاك النووي، وهذه قضية حياة أو موت بالنسبة لإسرائيل، ولهذا قد يشعل جبهة إيران، وهذا قد يخلط أوراق الأولويات في المنطقة. كذلك فهو قد يشعل الجبهة اللبنانية بالاستفزازات المستمرة للمقاومة اللبنانية، بحجة تسليم سلاح المقاومة للحكومة اللبنانية. أما على الجبهة السورية فهو يحاول استثمار حاجة النظام الجديد إلى الاستقرار والتقاط الأنفاس للابتزاز، يدعمه في هذا الرئيس ترامب! تحت بند اتفاقات أمنية، لكن هناك حدودا للنظام الجديد لا يستطيع تجاوزها، ما دامت الأرض السورية ما زالت محتلة.

في داخل إسرائيل يوجد شبه إجماع على رفض قيام دولة فلسطينية باستثناء يسار محدود جداً. قبل أكتوبر 2023 فقط 33% من الإسرائيليين أيدوا حل الدولتين وبشروط صعبة. وهذا انخفض إلى 21% فقط. الوضع الداخلي في إسرائيل لن يتغير بسهولة، ولن يتغير إلا إذا شعر الإسرائيليون بخطر العودة إلى ما قبل اتفاقات السلام والتطبيع، خصوصاً مع مصر والأردن، إضافة إلى المقاطعات والضغوط والعزل الدولي، خصوصاً أوروبا، هذا قد يؤدي إلى استيقاظ الشعب في إسرائيل من خطورة الحلم الذي بات نتنياهو يسعى لتحقيقه، وهو إنشاء دولة إسرائيل الكبرى. في الظروف الحالية، الشعب الإسرائيلي ما زال مستعداً لدفع ثمن تحقيق حلم إسرائيل الكبرى، ما دام أن الأمور تمضي بالثمن الذي يمكن احتواؤه حتى الآن. لهذا فإن نتنياهو سوف يتمسك بمشروع حلم إسرائيل الكبرى، بغض النظر عن نتائجه، يغريه بهذا فائض القوة الذي يملكه، والدعم الأمريكي الصهيوني المسيحي العقائدي، إزاء ضعف الموقف العربي وتشتته.

لن يتراجع نتنياهو أمام موجة الاعترافات بفلسطين، وسوف يعاقب المنطقة والعالم بمزيد من الكوارث، ولن ينجو منها أي شعب من شعوب المنطقة، بما في ذلك الشعب الإسرائيلي نفسه.

مقالات ذات صلة