
فشل العالم في اختبار حقوق الإنسان والقانون الدولي
لطفي العبيدي
حرير- من خلال منح إسرائيل حصانة من المساءلة وتسليح هذه الدولة الخارجة عن القانون، مكّن الغرب وفي مقدّمتهم أمريكا ارتكاب الفظائع المستمرة ضد السكان المدنيين في قطاع غزة. ومع تصاعد وحشية الاحتلال الإسرائيلي وترسيخ نظام الفصل العنصري، وفرض سياسة التجويع ضد الشعب الفلسطيني، فشل العالم في اختبار حقوق الإنسان والقانون الدولي.
الجميع، بمن فيهم الداخل الإسرائيلي المُحتج على حكومة المتطرّفين، أصبح يعلم أنّ الحفاظ على تحالف نتنياهو مع المتشدّدين، وبالتالي الحفاظ على ائتلافه الحاكم في السلطة، وبقاءه هو في منصبه، كان وما زال عاملا رئيسيا في دوافع رئيس الوزراء لإبقاء إسرائيل في حالة حرب، رغم الخسائر التي يتكبّدها جيش الاحتلال، وفشل نتنياهو وحكومته في تحقيق أهداف الحرب، بما فيها تخليص الرهائن بالقوة كما يدّعون.
يُظهر التاريخ أن قدرات القوات غير النظامية يمكن إعادة بنائها بسرعة نسبيا، مقارنة بالقوة الصلبة المكلفة لدى خصومهم، بالإضافة إلى ذلك، لا يحتاج المحاربون غير النظاميين إلى مواجهة القوة العسكرية لخصومهم بشكل مباشر. يُشير هذا إلى أنّ القوّة الحقيقية لحماس لا يمكن إيجادها في المقاييس التقليدية للتوازن العسكري. ومجرّد استمرار الحرب لما يقرب من عامين، واحتفاظ حماس بسلطة كافية في غزة لإخفاء الرهائن الإسرائيليين المتبقّين، وإلحاق خسائر بشرية متواصلة في صفوف جيش الاحتلال وقواته المهاجمة والمتمركزة في القطاع، يؤكد أنّ المقاومة ستبقى صاحبة السيادة في غزة، رغم مأساة التجويع والانتهاكات الإنسانية، والقصف والجرائم المنهجية المرتكبة ضد الفلسطينيين، وحرمان الاحتلال المدعوم غربيا، أهل غزة من أدنى مقوّمات الحياة أمام أنظار الدول العربية والإسلامية المتخاذلة.
تُشارك الولايات المتحدة الأمريكية حكومة نتنياهو مسؤولية المأساة الإنسانية المستمرة في قطاع غزة. ترامب ونتنياهو، يقودان مشروع التصفية تحت غطاء مفاوضات كاذبة. وعمليات التهجير القسري المستمرة في الضفة الغربية، والدعوات إلى «إعادة توطين» غزة، جميعها خطوات تخدم المشروع الإجرامي لـ»إسرائيل الكبرى»، بهدف أقصى قدر من الأرض الفلسطينية والعربية. حكومة الاحتلال منعت وسائل الإعلام الدولية من دخول غزة، أو تغطية ما يحدث فيها بحرّية، فتحمّل الصحافيون المحليون وحدهم عبء تغطية الحرب، ودفعوا ثمنا باهظا بأرواحهم. في آخر حصيلة منذ أيام، قتل الجيش الإسرائيلي أكثر من 20 شخصا، بينهم خمسة صحافيين، باستهدافه مستشفى ناصر جنوب القطاع. لا توجد خطوات رادعة تمنع قتل الصحافيين في غزة، وهذا غير مستغرب من كيان مدعوم أمريكيا وغربيا. فحتّى الآن لا توجد أي إدانات في قضية اغتيال الصحافية الفلسطينية الأمريكية شيرين أبو عاقلة عام 2022، رغم أن عدّة تحقيقات أكّدت أنّها قُتلت برصاص قناص إسرائيلي، أثناء تغطيتها لاشتباكات في الضفة الغربية. باختصار، عمليات القتل العلنية للصحافيين في غزة مستمرة على مرأى من العالم، فيما يفشل الجميع في التحرك الحازم تجاه أبشع الهجمات التي واجهتها الصحافة في التاريخ الحديث.
حسب «واشنطن بوست»، أظهر استطلاع حديث أن 76% من اليهود الإسرائيليين يوافقون بدرجات متفاوتة على مقولة: «لا يوجد أبرياء في غزة»، ما يعكس حجم الشك والعداء الذي يحمله الرأي العام الإسرائيلي تجاه أكثر من مليوني فلسطيني في القطاع، الذين تعرضت أرضهم للتدمير بفعل القصف الإسرائيلي، فيما يعيش كثير منهم تحت وطأة مجاعة أعلنتها الأمم المتحدة، نتيجة الحصار المستمر منذ شهور. هي عقيدة تصفية واضحة، وعدائية متجذرة في الذهنية الصهيونية، لا تقبل سوى بإنهاء الوجود الفلسطيني وربما العربي في مرحلة لاحقة.
في عام 1948، اعتمد المجتمع الدولي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، ومنذ ذلك الحين، فشل العالم مرّات عديدة في الحفاظ على هذه الحقيقة الثمينة: أنه لا يجوز أن يفنى الناس في ألسنة اللهب، ولا يجوز ارتكاب مثل هذه الجرائم البشعة، فيما يقف الآخرون مكتوفي الأيدي، لكن لم يحدث في الأزمنة الحديثة أن واجه العالم هاوية الفناء، كما يواجهها اليوم في غزة. الناس الذين يتضورون جوعا وهم تحت التهديد المستمر بالقصف، لا يملكون الصبر نفسه الذي يملكه «المسؤولون المتأنّقون في المكاتب الرخامية» كما عبّرت صحيفة «الغارديان البريطانية. إنّهم يتوسّلون للحصول على الطعام والماء والهواء، بينما ينشغل الساسة بالجدل حول الشروط والتوقيت. هذا ما يجعل التصريحات المتعسّرة حول الاعتراف بدولة فلسطينية، لا تعدو أن تكون مجرد كلام أجوف، لحفظ ماء وجه أنظمة أصبحت تخشى ضغط شعوبها، فتحاول تشتيت الانتباه، مع الاستمرار عمليا في تحصين هذا الكيان من أي عقوبة يمكن أن تكون رادعا لأفعاله الشنيعة. ماذا ينتظرون بعد؟ خطة «الاحتلال الكامل» لقطاع غزة وشنّ هجمات على التجمعات السكانية، وقتل الجميع: أطفالا ونساء وحتى صحافيين، وفرض مجاعة بشكل متعمّد. جميع هذه الأفعال التي يأتيها جيش الاحتلال الصهيوني بتوجيه من حكومة متطرّفة، تنتهك الأحكام الثلاثة الصادرة عن محكمة العدل الدولية بشأن الإبادة الجماعية في يناير ومارس ومايو 2024. في ضوء ذلك، يمكن فهم المعنى الحقيقي لقول نتنياهو بشكل متكرّر: إن غزة (وليس حماس) لن تكون تهديدا. ولماذا قرّرت الحكومة الإسرائيلية مؤخّرا رفض دور للسلطة الفلسطينية في غزة؟ أمريكا أيضا ترفض منح تأشيرات لممثلي منظمة التحرير الفلسطينية، وتمنع أيّ تمثيل فلسطيني من دخول أراضيها لحضور اجتماعات الجمعية العامة. الأمر لا يتعلّق بحماس، ولا بالأهداف العسكرية، ولا بالرهائن الذين عمل نتنياهو بشكل منهجي على إفشال إطلاق سراحهم، بل هي حملة إبادة جماعية بإرادة إسرائيلية أمريكية مشتركة، تستمرّ في إنكار حرية الفلسطينيين، وتسعى لفرض التفوّق اليهودي من النهر إلى البحر، وتمنع ظهور دولة فلسطينية.
أمام فظائع الكيان في غزة، والتعدّي الإسرائيلي السافر على سيادة الدول العربية والإسلامية. يتوجّب على جميع الدول، من الناحية القانونية والأخلاقية، اتخاذ إجراءات فورية وفعّالة لوقف عربدة إسرائيل في المنطقة، بما في ذلك فرض العقوبات، وحظر بيع الأسلحة، وتعليق العلاقات التجارية والتعاملات الدبلوماسية، ودعم المحاكم الدولية لإحضار مجرمي الحرب الصهاينة إلى العدالة. حينها فقط يكون العالم قد تدارك فشله في تطبيق القانون الدولي، وحفظ السلم وحماية حقوق الإنسان، ومنع اضطهاد الشعوب المستعمَرَة.