
فلسطين في ثلاث دورات: من غصن الزيتون إلى الإقصاء
عبد الحميد صيام
حرير- المشهد الأول – المكان- قاعة الجمعية العامة – نيويورك – الزمان 13 نوفمبر 1974
كان الفلسطينيون يحسب لهم ألف حساب. كان العرب ملتفين تماما حول القضية الفلسطينية، يوم أوعزت ألمانيا للفلسطينيين أن يخطفوا طائرة لتبرير إطلاق سراح من اعتقلوا من مجموعة ميونيخ، التي هاجمت الفريق الرياض الإسرائيلي، يوم خطفت طائرة العال وحطت في العاصمة الجزائرية، يوم اعترفت مجموعة دول عدم الانحياز في العاصمة الجزائرية عام 1973 بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وتبع ذلك قرار مؤتمر القمة العربية في الرباط عام 1974 بتكريس ذلك الاعتراف عربيا. يوم انتخب عبد العزيز بوتفليقة، وزير خارجية الجزائر رئيسا لدورة الجمعية العامة التاسعة والعشرين عام 1974، يوم أدخلت اللغة العربية لغة رسمية سادسة في مداولات المنظمة الدولية، يوم كانت انتصارات أكتوبر تمسح الغبار عن هزيمة 1967 ويوم تسابقت الدول الافريقية لقطع علاقاتها مع الكيان الصهيوني. يومها دعي ياسر عرفات قبل أن يُعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية، أو بدولة فلسطين دولة مراقبة.
دخل ياسر عرفات قاعة الجمعية العامة يوم 13 نوفمبر 1974 ومسدسه على خاصرته ووضع له كرسي الرئاسة قرب المنصة بإصرار من بوتفليقة، وقف 3000 شخص في القاعة الكبيرة بطوابقها الأربعة مصفقين لعدة دقائق للثائر الذي أصبح اسمه وصورته بالكوفية على كل لسان. يوم كان الفلسطيني يمتشق العدل والصلابة والسلاح، انحنى العالم له استقبله كما لم يستقبل زعيما آخر. صفقوا له طويلا عندما أعلن: «لقد جئتكم حاملا غصن الزيتون بيدي وبندقية الثائر في يدي الأخرى فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي».
المشهد الثاني- المكان: جنيف – الزمان: 13 ديسمبر 1988
تغيرت الدنيا وتراجع الحضور العربي. السادات وقع اتفاقية كامب ديفيد، وتم نقل الجامعة العربية إلى تونس. الحرب العراقية الإيرانية توقفت بعد ثماني سنوات، وبعد أن تركت شروخا في الجسم العربي، حيث اصطفت دول خلف العراق وأخرى دعمت الموقف الإيراني. العدو الصهيوني دمر المفاعل النووي العراقي جنوب بغداد. الكيان الصهيوني غزا لبنان ووصل العاصمة بيروت وقوات الثورة الفلسطينية رحلت من لبنان بعد وضع الثقة في الوسيط الأمريكي فيليب حبيب، والنتيجة مجازر صبرا وشاتيلا. القمة العربية في عمان في نوفمبر 1987 كانت جرس إنذار حول التشظي العربي، وتفاقم الخلافات بين العراق ودول الخليج. تم تهميش قضية فلسطين. كاد ياسر عرفات أن يعود من المطار لعدم استقباله باحترام. في ديسمبر 1987 انفجر الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة مطلقا الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي أعادت الاعتبار للقضية الفلسطينية عربيا وعالميا. المجلس الوطني الفلسطيني عقد دورة في الجزائر في نوفمبر 1988 في ظل الانتفاضة. أعلن ياسر عرفات يومها «باسم الله وباسم الشعب قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف». صدر عن تلك الدورة قرارات خطيرة تم التعتيم عليها، في «هبروجة» إعلان الاستقلال وتغليفه بلغة الكفاح، وحق العودة، واستمرار الانتفاضة. وجاء فيه: «عزم منظمة التحرير الفلسطينية على الوصول إلى تسوية سياسية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي وجوهره القضية الفلسطينية في إطار ميثاق الأمم المتحدة، ومبادئ وأحكام الشرعية الدولية وقواعد القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة».. آخذين بالاعتبار أن المؤتمر الدولي (لحل القضية) ينعقد على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338 وضمن الحقوق الوطنية المشروعة.. ويضع مجلس الأمن ترتيبات الأمن والسلام بين جميع الدول المعنية في المنطقة، بما في ذلك الدولة الفلسطينية، ويعلن مجددا رفضه للإرهاب بكل أنواعه، بما في ذلك إرهاب الدولة».
ومع كل هذا التراجع والتنازلات عن ميثاق المنظمة، تقدم ياسر عرفات بطلب تأشيرة لإلقاء خطاب في الجمعية العامة، لكن إدارة الرئيس الأمريكي ريغان التي كانت في طريقها للخروج من البيت الأبيض واستبدالها بنائبه جورج بوش، لم تكن هذه التنازلات كافية وتعللت بأن منظمة التحرير ليست دولة ورفضت منح عرفات التأشيرة. صوتت الجمعية العامة بغالبية 124 صوتا لنقل الدورة إلى جنيف. وبعد أن ألقى عرفات الخطاب يوم 13 ديسمبر 1988 عقد مؤتمرا صحافيا في اليوم التالي، أكد فيه تأييد م.ت.ف، المفاوضات كأساس للتسوية مع إسرائيل في إطار القرارين 242 و338، وأكد عرفات أيضا موقف منظمة التحرير الفلسطينية، وهو أن لإسرائيل الحق في الوجود في سلام وأمن وفي التخلي المطلق عن جميع أشكال الإرهاب. (التخلي وليس الإدانة).
المشهد الثالث- نيويورك ـ جلسة خاصة للجمعية العامة للاعتراف بدولة فلسطين- 22 سبتمبر 2025
حرب الإبادة على غزة مستمرة منذ نحو سنتين. الضفة الغربية تم الاستيلاء على معظم أراضيها. المستوطنون توحشوا أكثر، وتكررت هجماتهم على سكان الضفة. القدس شبه معزولة، أعلن ترامب في دورته الأولى اعترافه بأنها عاصمة إسرائيل الموحدة ونقل السفارة إليها. الانقسام الفلسطيني تعمق أكثر واتسع سياسيا وجغرافيا. السلطة تكاد تتهاوى ولا تدفع رواتب موظفيها إلا لماما. العرب تراجعوا عن دعم فلسطين. قاطرة السلام الإبراهيمي حملت إلى تل أبيب أربع دول عربية، وقد تنقل قريبا ركابا آخرين. السودان وليبيا واليمن وليبيا تشهد صراعات وحروبا بين مكونات شعوبها. سوريا تحاول أن لا تتفكك. لبنان تعرض لهجمات شرسة وانتهي الأمر بإضعاف المقاومة. العراق دخل حربين وتجذرت فيه التركيبة الطائفية. مصر ما بعد انقلاب 2013 أطبقت الخناق على غزة فدمرت الأنفاق، وأقامت سورا عازلا تحت الأرض. ساهمت في خنق غزة تماما في حرب الإبادة والتجويع وآلاف الأطنان من المساعدات مكدسة على معبر رفح. عقود عسكرية وأمنية واقتصادية تعقد بين بعض الدول العربية والكيان. رفع العلم الفلسطيني في كثير من العواصم يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون. ترامب يكافأ على دعمه المطلق للكيان واعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل وبالجولان كذلك، ويعود من زياراته للخليج بخمسة ترليونات دولار وطائرة 747 هدية. خضروات وفواكه ومواد تموينية وشحنات أسلحة تصل إلى الكيان، برا وبحرا عبر الموانئ والحدود العربية. وعند إطلاق المقذوفات الإيرانية تتعاون هذه الدول مع الكيان والولايات المتحدة وبريطانيا لاعتراضها. طيران الكيان يحلق في سماوات الأنظمة العديدة.
رئيس وزراء السلطة محمد مصطفى، أعلن أمام الجمعية العامة في مؤتمر تفعيل حل الدوليتين يوم 28 يوليو الماضي «إنه يتعيّن على حركة حماس إلقاء السلاح والتخلي عن سيطرتها على غزة للسلطة الفلسطينية، لاستعادة الأمن في القطاع الذي دمّرته الحرب. «يجب أن تنسحب إسرائيل بالكامل من قطاع غزة، ويجب على حماس التخلي عن سيطرتها على القطاع وتسليم سلاحها للسلطة الفلسطينية».
النتيجة: يوم 29 أغسطس أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية منع إصدار تأشيرات لرئيس السلطة الفلسطينية و80 مسؤولا للمشاركة في الدورة الثمانين للجمعية العامة والمشاركة في المؤتمر رفيع المستوى يوم 22 سبتمبر للاعتراف بدولة فلسطين، تحت حجة أن السلطة متورطة في الإرهاب، وتسعى للاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية، وتدعم ملاحقة إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية. وهكذا «من يهن يسهل الهوان عليه». هذا ثمن المراهنة على أمريكا والدول العربية حليفة أمريكا والدول الغربية الملحقة بذيل أمريكا. هذا ثمن التخلي عن الشعوب والمراهنة على الأنظمة. ثمن التخلي عن المقاومة والمراهنة على السياسة والدبلوماسية. هذا ثمن التخلي عن برنامج التحرير من أجل الحصول على الدولة والنتيجة خسارة الإثنين معا.



