المجرم يعود إلى مسرح جريمته!

توفيق رباحي

حرير- كلُّ ما قرأت بعد انتشار خبر مشاركة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير في اجتماع في البيت الأبيض خُصص لبحث مستقبل غزة، صبَّ في اتجاه واحد مختصره: عودة غير مستحق، مثيرة للريبة والأسئلة.

بأكثر من لغة، أجمعت التعليقات والآراء والمقالات على أن بلير هو آخر من يحق له المشاركة في التخطيط لمستقبل غزة وسكانها. وأجمعت على أن الرجل ملطّخ اليدين بدماء الكثير من العرب والمسلمين وعلى رأسهم العراقيون، وعلى أنه يتحمل مسؤولية تاريخية في ما تعيشه المنطقة العربية من مآسٍ.

الحقيقة أن اسم بلير سيقترن بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وانتهاكات فظيعة عاشتها منطقة الشرق الأوسط وشعوبها. مَن لم يشارك بلير بشكل مباشر في قتلهم وقمعهم، كما كان الحال مع العراقيين، يساهم حاليا في إبقائهم تحت الظلم والطغيان من خلال تقديم المشورة لقادتهم ونخبهم في كيفية تكريس الاستبداد وقمع الحريات، تحت غطاء مساعدتهم على بسط أساليب حكم عصرية وناجعة.

المسؤول الأول الأكبر عن الخراب والظلام الذي تعيشه منطقة الشرق الأوسط والشعوب العربية الآن، إلى جانب الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن وعصابته، شخص اسمه توني بلير. فاللعنة الكبرى التي حلّت على هذه المنطقة بدأت مع احتلال العراق واستمرت مع التداعيات الخطيرة التي انجرت عن ذلك. وبريطانيا، برئاسة بلير، لعبت دورا أخطر من الدور الأمريكي في ذلك الاحتلال بحكم قربها التاريخي والجغرافي من المنطقة ومعرفتها بالأمزجة والذهنيات. لو لم يجد بوش الابن دعما مطلقا من بلير أولاً، ثم بعض القادة الغربيين المتطرفين، مثل الإسباني خوسي ماريا أثنار والأسترالي جون هاورد، لفكّر أكثر قبل الإقدام على احتلال العراق ولكانت المنطقة اليوم في وضع أقل سوءا.

أيضا، المسؤول الأجنبي الأكبر عن اتساع نطاق الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية توني بلير. في فترة عمله في ما كانت تسمى «الرباعية»، تلك اللجنة البيروقراطية العقيمة، شهد الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية إحدى أفضل مراحل اتساعه. صمت بلير وجُبنه عن مواجهة الإسرائيليين شجعهم على المضي في مشاريع الاستيطان دون قلق أو خوف من مساءلة. مثل كل القادة الغربيين، ولاء بلير لإسرائيل وأمنها وحقها في التفوق العسكري والاقتصادي على دول المنطقة لا يحتاج إلى برهنة.

حضور بلير السلبي كمبعوث للجنة الرباعية جلب له عداء كل الأطراف، حتى السلطة الوطنية الفلسطينية التي أوشكت على قطع التعامل معه، وهي التي تتودد للكل ولم تُغضِب مسؤولا أو مبعوثا أجنبيا يوما.

لم يكتف بلير بهذه الأدوار المشؤومة، بل أنشأ معهدا يدّعي تقديم المشورة والنصح في الحكم الرشيد لدول الجنوب، وراح يُغري بعض قادة دول في الشرق الأوسط وآسيا ليشتروا بضاعته المغشوشة مقابل أموال طائلة يستثمرها في بناء إمبراطورية عقارية تتفنن في استغلال الثغرات في القوانين لدفع أقل ما أمكن من مستحقات الضرائب المترتبة.

لسوء حظ الدول العربية أن بعض القادة اشتروا أكاذيب بلير وأوهامه بقدرته على قيادتهم إلى إرساء أساليب حكم أفضل وأكثر استقرارا، علماً أنه أخفق في عقر داره وجلب الخراب لبريطانيا وتركها مقسّمة اجتماعيا تترنح في أزماتها المتنوعة عندما غادر رئاسة الوزراء بعد أكثر من عشر سنوات في المنصب. وترك حزب العمال في أسوأ أحواله بلا قيادة محترمة، عديم الكرامة والهوية والبوصلة.. لا هو يساري ولا هو يميني، لا هو اجتماعي ولا ليبرالي.. مجرد جهاز مشلول عاقبه البريطانيون شر عقاب في انتخابات أيار (مايو) 2010.

عودة بلير إلى الشرق الأوسط عبر بوابة غزة تشبه عودة مجرم إلى مسرح جريمته. أستبعد أن تكون العودة من بنات أفكار ترامب شخصيا، فهذا الرجل لا يرى أحدا غير نفسه ويؤمن بأنه أذكى من الكل ولا يحتاج لمساعدة أحد. حتى لو عُقد الاجتماع في البيت الأبيض، فعودة بلير تمت غالبا بوحي من دوائر مظلمة في واشنطن تبحث عن طريقة لسرقة غزة من أهلها، وما البيت الأبيض والسياسة إلا العكاز الذي تتكئ عليه عملية السرقة. وقد تبيّن الأمر بسرعة عندما نشرت صحيفة الواشنطن بوست تفاصيل مخطط السرقة بعد أقل من 72 ساعة من الاجتماع.

وأن تقترن هذه العودة بالرئيس ترامب وخططه الشيطانية، وصهره جاريد كوشنير، يعني أننا أمام جريمة إنسانية تاريخية بصدد التشكّل، مثل نكبة 1948 وربما أسوأ.

وفق أدبيات معهد بلير الذي مقره لندن، أفضل أساليب الحكم التي تليق بالدول العربية وعموم دول الجنوب، تقوم على الاقتصاد والتجارة على حساب الحريات والحقوق الأساسية. هذا المعهد هو أحد عرّابي النظرية السياسية التي تأخذ طريقها في الانتشار وفحواها أن مستوى معيّنا من الديكتاتورية مع شيء من الرخاء الاقتصادي أفضل لشعوب الشرق الأوسط والعالم الثالث من ديمقراطية غير مأمونة العواقب. ويعلم بلير والقائمون على المعهد أن الديكتاتورية والقمع مضمونان للشعوب العربية، أما الرخاء الاقتصادي فليس أكيدا. بالنسبة للشعوب البيضاء، لا مشكلة فهي تستحق أن تجرب كل شيء، حتى لو انتخبت واحدا مثل ترامب بكل أخطاره على الولايات المتحدة والعالم!

لو أننا في عالم مثالي، المكان الطبيعي لبلير هو سجن دولي يقضي فيه ما تبقى من عمره، كما كان مصير بعض قادة يوغسلافيا السابقة. هو وأركان إدارة جورج بوش الابن.

مقالات ذات صلة