اغتيال كلمة

بقلم الإذاعي والكاتب شريف عبد الوهاب رئيس الشعبة العامة للاذاعيين العرب

اثارت ذكرى احتفال إذاعة صوت العرب بوفاة رائد الإعلام العربي ومؤسس إذاعة صوت العرب، الإذاعي أحمد سعيد، في نفس توقيت استهداف أبو عبيدة الناطق باسم كتائب القسام، بداخلي العديد من التساؤلات.

هل هي مجرد صدفة أن تتقاطع اللحظتان في يوم واحد؟ أم أن القدر يريد أن يعيد تذكيرنا بقوة الكلمة، وأنها ستبقى دائمًا في مواجهة الرصاصة، مهما تغيّر الزمان واختلفت الساحات؟

الاستعمار قديمًا كان يستهدف إذاعة صوت العرب لأنها لم تكن مجرد محطة إذاعية عابرة، بل كانت جبهة مواجهة كاملة. هذه الإذاعة التي خرجت من القاهرة سنة 1953 لم تكتفِ بنقل الأغاني أو نشر الأخبار، بل تحولت إلى منبر للتحرر العربي، تساند الثورات في الجزائر وتدعم حركات المقاومة في فلسطين وتواكب نضال الشعوب في كل أرجاء الأمة.

إلى الحد الذي جعل قوى الاستعمار الغربي ترى في ميكروفون أحمد سعيد سلاحًا لا يقل خطرًا عن المدفع والدبابة. فأصبحت إذاعة صوت العرب هدفا عسكريا، بل إن محطات الإذاعة في العواصم العربية سارعت إلى رفع الشعلة، فسمعنا “هنا صوت العرب من دمشق”، “هنا صوت العرب من تونس”، حتى لا ينطفئ الصوت، وحتى لا يخفت النداء الذي كان يطالب بالحرية والخلاص من الاستعمار.

لقد كان أحمد سعيد صوت عبد الناصر، وصوت المرحلة القومية التي حلمت بالوحدة العربية. كانت كلماته تنفذ إلى قلوب الملايين، توقظ الحماسة، وتزرع الثقة، حتى أن شعوبًا بأكملها كانت تعتبر أن معركتها لا تبدأ إلا حين تسمع صوت أحمد سعيد من ميكروفون “صوت العرب”. صحيح أن هزيمة 1967 هزّت صورته وأضعفت مصداقيته بسبب البيانات التي بالغت في تصوير الانتصار، لكن التاريخ أنصفه باعتباره الرائد الذي أسس مدرسة كاملة في الإعلام المقاوم.

واليوم، بعد عقود طويلة، يطل علينا اسم آخر ارتبط بالكلمة والنضال: أبو عبيدة. لكن هذه المرة، لم يأت الصوت من إذاعة القاهرة، بل من غزة المحاصرة. لم يكن الصوت نابعًا من ميكروفون إذاعي كلاسيكي، بل من تسجيلات مصورة تبثها الفضائيات وتتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي.

ورغم اختلاف الوسيلة، فإن الجوهر واحد: الكلمة المقاوِمة.

أبو عبيدة لم يكن مجرد ناطق عسكري باسم كتائب القسام، بل أصبح رمزًا للصمود. خلف القناع، وبصوت هادئ وقوي، كان يطل على ملايين العرب ليبعث برسائل التحدي للعدو، وبشارات النصر للجماهير. كل بيان له كان يتحول إلى حدث منتظر، يشد الأنظار ويشعل الحماسة. لقد أدركت إسرائيل أن مجرد ظهوره الإعلامي يمكن أن يرفع الروح المعنوية لشعب بأكمله، ويهز صورتها أمام العالم.

ولذلك لم يكن استهداف أبو عبيدة اغتيالًا لشخص فقط، بل محاولة لإسكات صوت المقاومة. تمامًا كما كانت إذاعة صوت العرب هدفًا عسكريًا قبل ستة عقود، أصبح صوت أبو عبيدة اليوم هدفًا عسكريًا للمغتصب الصهيوني.

لكن السؤال الجوهري يظل قائمًا: هل يمكن للرصاص أن يغتال الكلمة؟

التاريخ يجيبنا بلا. فقد رحل أحمد سعيد، لكن المدرسة التي أسسها بقيت، وصارت أصوات المقاومة في كل مكان تتبنى نهجه. ورحل أبو عبيدة اليوم، لكن صوته سيظل يتردد في الذاكرة، وسيخرج من بين الركام ألف صوت يواصل رسالته.

الرجال يموتون، نعم، لكن الكلمات لا تموت. الكلمات التي خرجت من القلب، وظلت صادقة، قادرة على أن تعيش أبديًا، وأن تؤثر في الأجيال القادمة أكثر مما تفعل الرصاصة في لحظتها.

إلى هذه الدرجة الكلمة أقوى من الرصاص. إلى هذه الدرجة الكلمة توجع المغتصب، لأنها تكشف ضعفه، وتفضح جرائمه، وتمنح المقهورين الأمل في الانتصار.

ربما أراد القدر أن يربط بين ذكرى أحمد سعيد واستشهاد أبو عبيدة، ليقول لنا إن المعركة واحدة، وإن تعددت الأزمنة. معركة بين الكلمة والرصاصة. معركة بين الحق والباطل. معركة بين من يريد الحرية ومن يريد الاستعباد.

ولعل الأهم أن ندرك أن الكلمة ليست مجرد شعارات، بل التزام ومسؤولية. أحمد سعيد حين رفع صوته من ميكروفون صوت العرب، كان يعلم أنه يضع نفسه في مواجهة مباشرة مع الاستعمار. وأبو عبيدة حين ظهر خلف قناعه، كان يعرف أن حياته كلها مهددة بالاغتيال. لكنهما مع ذلك اختارا الكلمة، لأنها الطريق الأصدق إلى قلوب الناس.

إن الإعلام المقاوم ليس مجرد أخبار أو بيانات، بل هو جزء أصيل من المعركة. وإذا كان العدو يخاف من الكلمة إلى هذا الحد، فذلك لأنها السلاح الذي لا يمكن اعتقاله ولا قصفه. الكلمة تنتشر كالنار في الهشيم، تسافر عبر الأثير والشاشة والهواتف المحمولة، وتبقى بعد أن تسكت المدافع.

وهكذا تتأكد لنا الحقيقة مرة أخرى: قد يخنقون الرجال، لكنهم لن يخنقوا الكلمات. قد يغتالون الصوت، لكنهم لا يستطيعون أن يغتالوا الصدى. وما دام في الأمة من يؤمن بقضيته، فستظل الكلمة أقوى من الرصاص، وستبقى الكلمة دائمًا وأبدًا هي البداية الحقيقية لكل نضال.

مقالات ذات صلة