احمل روحك على كفّك وتابع البثّ

فاطمة العيساوي

حرير- لم يكن يمكن أن نتخيّل، قبل حرب الإبادة في غزّة، أن وسائل إعلام قد تنشر نداء تطلب فيه السماح بإجلاء مراسيلها من ميدان التغطية خوفاً عليهم ليس من القتل فحسب، بل من الموت جوعاً. لم يكن ليخيّل إلينا أيضاً أننا قد نسمع عن وسيلةٍ إعلاميةٍ تعلن مقتل كل مراسليها في استهدافٍ مباشرٍ لهم. لا شيء في ما يدور في ساحة الإبادة في غزّة يشبه أو يقارب ما نعرفه عن تغطية مناطق الحروب. إنها حربٌ ضد ناقل الحقيقة عن رعب الإبادة من داخلها. إلا أن هذه الحرب لم تكن لتحقق هدفها لولا مساهمة وسائل الإعلام الغربية، عبر قبولها الحظر الإسرائيلي لدخول غزّة، وفي تغطيتها الخفيفة مقتل ما لا يقل عن مئتي مراسل وعامل إعلامي منذ بدء الحرب، وفي مناقشتها هوية هؤلاء الصحافيين متبنّية، بشكل مباشر أو غير مباشر، التضليل الإسرائيلي عن تجنيد هؤلاء في صفوف حركة حماس.

أعلنت قناة الجزيرة مقتل جميع أفراد طاقم التغطية في غزّة، وهم المراسلان أنس الشريف ومحمد قريقع، والتقنيون مؤمن عليوة، محمد الخالدي، محمد نوفل وإبراهيم ظاهر في قصف استهدف مقرّهم. محا فعل القتل طاقم التغطية كله في غزّة في دقائق. قبل هؤلاء، قتل زملاء من طواقم “الجزيرة” في استهداف لهم كصحافيين، بحجة أنهم أعضاء في “حماس”، من دون تقديم أي دلائل جدّية. الأهم أنهم قتلوا في حين كانوا يمارسون مهامهم الصحافية من دون لبس، وباتوا صوتاً وحيداً يعبّر عن معاناة أهلهم بعدما غاب الإعلام العالمي عن التغطية. من هؤلاء، حسام شبات مراسل “الجزيرة مباشر” الذي قُتل في غارة في 24 مارس/ آذار المقبل، وإسماعيل الغول الذي قتل مع المصور المرافق له رامي الريفي في غارة استهدفت سيارتهما في 31 يوليو/ تموز 2024، وحمزة الدحدوح، الابن الأكبر لوائل الدحدوح، مدير مكتب “الجزيرة” في غزّة، الذي قتل في غارة إسرائيلية في 7 يناير/ كانون الثاني 2024، ومصوّر “الجزيرة” سامر أبو دقة الذي قتل في غارة إسرائيلية في حين كان يقوم بتغطية القصف الإسرائيلي على مدرسة تؤوي لاجئين في خانيونس في 15 ديسمبر/ كانون الأول 2023. سقط عدد كبير من المراسلين والتقنيين من غير طواقم “الجزيرة” بما فيهم مدونون وناشطون، منهم الشابة فاطمة حسونة التي وثقت يوميات الحرب عبر هاتفها المحمول وقتلت مع عائلتها في غارة إسرائيلية استهدفت منزلهم في غزّة في 16 إبريل/ نيسان 2025، وهي موضوع الفيلم الوثائقي “ضع روحك على يدك وامشِ”، الذي اختير للعرض بالتزامن مع مهرجان كان السينمائي لهذا العام والفيلم يوثق الحوارات بين الشابّة والمخرجة زبيدة فارسي في لقاءاتهما خلال عام في إطار التحضير للفيلم.

احمل روحك على كفك وامض في عملك وأنت جائع ومنهك، ذلك هو حال الصحافيين الفلسطينيين في غزّة، مراسلين وتقنيين، الذين لا يزاولون يتابعون التغطية، رغم اصطيادهم الواحد تلو الآخر. تتباين تقديرات عدد القتلى بينهم، إذ يقول المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إن 237 صحافياً وعاملا إعلامياً قتلوا منذ بدء الحرب، في حين تقدّر لجنة حماية الصحافيين عدد هؤلاء بـ 186 على الأقل. قالت المراسلة هند الخضري عشية قتل زملائها في قناة الجزيرة إن التغطية يجب أن تستمر وغرّدت بأنها لا تخاف تهديدات الصواريخ. قلة قليلة لا يزالون على قيد الحياة، بينهم هند، يضعون أرواحهم على أكفهم كل يوم لإيصال المعلومة والخبر إلينا عن مجازر لا توصف. لا يسقط هؤلاء ضحايا القتل فحسب، بل الجوع. كانت وكالة الصحافة الفرنسية قد دعت إلى إجلاء مراسليها المحليين في غزة، محذرة من أن “وضعهم بات لا يُطاق، على الرغم من شجاعتهم المُثلى والتزامهم المهني وصمودهم.” وأصدرت جمعية الصحافيين في الوكالة، المستقلّة عن الإدارة، بياناً حذّرت فيه عن موت المراسلين جوعاً، في سابقة لم تشهدها الوكالة الدولية في تغطيتها السابقة للحروب في مختلف أنحاء العالم. جاء في البيان: “منذ تأسيس وكالة فرانس برس في أغسطس/ آب 1944، فقدنا صحافيين في صراعات، وكان بيننا زملاء مصابون ومسجونون، لكن أحداً منا لا يذكر أنه شاهد زميلاً يموت جوعاً على الإطلاق”، مضيفاً “نحن نخشى أن يبلغنا خبر وفاتهم في أي لحظة، وهذا أمر لا يطاق بالنسبة لنا… نرفض أن نشاهدهم يموتون”.

رغم الأعداد المخيفة للقتل الإسرائيلي العمد للصحافيين، لا استهجان لدى الإعلام الغربي عموماً، مع استثناءات قليلة، ولو أنها مهمّة جداً. ليس هنالك من تضامن فعلي، في ما يتعدّى بيانات وقعها صحافيون أفراد أعلنوا، منذ البداية، موقفهم الداعم للمراسلين الفلسطينيين في غزّة، وطالبوا بالسماح لهم الدخول الى غزّة. الأخطر من ذلك كله تبنّي وسائل الإعلام الرواية الإسرائيلية مبرّراً لقتل هؤلاء ومناقشتها في الحوارات المتلفزة وتكرارها في نشرات الأخبار باعتبارها من المسلمات. يغفل على الإعلام أن التعاطي المتلبس مع قتل الصحافيين (صحافيون ولكن) لا يعرض المراسلين الباقين في غزّة لخطر القتل فحسب، وهو ما شهدناه منذ بداية العمليات العسكرية وما اعترفت به إسرائيل من دون خشية أي محاسبة، بل يفتح الباب واسعا أمام مطاردة وقتل أي ناقل للحقيقة، إذا ما كانت مزعجة للأنظمة وأصحاب السطوة، بحجّة مكافحة الإرهاب والأمن الوطني وحق الدفاع عن النفس. الأخطر من ذلك كله أن التضليل الإسرائيلي الهادف إلى الخلط بين هوية الصحافي والمحارب ينزع المشروعية ليس فقط عن المراسلين الفلسطينيين الذين باتوا هدفا للوحشية الإسرائيلية، بل كل صحافي يحاول أن يتحدى سلطة ما عبر نقل جرائمها.

ليس هنالك مجموعة صحافية عالمية كما كنا نعتقد حتى حينه. هنالك من يتمتّع بالاعتراف والحماية وهنالك من يفتقدها. هنالك من ينقل الخبر وهو يحمل روحه على كفه وهناك من يقبل بالحظر الإسرائيلي على التغطية الميدانية باعتبارها ساحة شديدة الخطورة أو بحجة انها حرب بين طرفين لا إبادة ضحاياها مدنيون. ليس صحيحا أن الاعلام عاجز عن الضغط، بإمكانه تحدي الحظر الإسرائيلي، أقلّه عبر مقاطعة تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، أو التذكير بأن هذه التصريحات لا يمكن التأكد منها نظرا للتعتيم الإعلامي، في كل نشرة اخبار، أسوة بمصطلحات يستخدمها الاعلام مثل “وزارة الصحة التابعة لحماس” في محاولة التقليل من عدد القتلى من المدنيين. قتل المراسلين لن يتوقف لكن التغطية للحرب لن تتوقف أيضاً، رغما عن الصواريخ الإسرائيلية، حتى لو كان الثمن أرواح ناقلي الحقيقية المحمولة على الأكفّ كل دقيقة.

مقالات ذات صلة