
مجزرة الصحافيين… ومعركة الرأي العام التي خسرتها إسرائيل
محمد عايش
حرير- طوال السنوات الماضية من عمر الاحتلال الإسرائيلي، كان ثمة خطان أحمران لا يتم استهدافهما، وهما: الطواقم والمنشآت الطبية والطواقم الصحافية، ولم يكن ذلك نتيجة أن الاحتلال كان يُمارس عملاً أخلاقياً، وإنما لأن الاعتداء على هذين القطاعين يُشكل جريمة حرب، لأنه لا علاقة لهما بأي نزاع مسلح، وإنما هما يُقدمان الخدمات لضحايا ذلك النزاع من المدنيين الأبرياء.
الصحافيون والأطباء لا علاقة لهم بأية حرب، وهم ليسوا جزءاً من أي صراع، وهم يخاطرون بحياتهم من أجل القيام بعملهم وواجبهم، وهذه حقيقة توافق العالم عليها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وانتهاكُ ذلك يُشكل جريمة حرب مكتملة الأركان. كما إن حماس ذاتها وغيرها من الفصائل الفلسطينية، لم يسبق أن استهدفت هذين القطاعين في إسرائيل، والشواهد على ذلك كثيرة، من بينها أن الصحافيين الإسرائيليين كانوا يدخلون إلى قطاع غزة، ويتجولون في الضفة الغربية دون أن يتم التعرض لهم بأي سوء أو أذى.
وفي عام 2001 نفذ مقاتل فلسطيني يُدعى سعيد الحوتري عملية تفجيرية في ملهى ليلي داخل تل أبيب، أدت إلى مقتل 21 شخصاً وإصابة عشرات آخرين، وأظهرت التحقيقات الإسرائيلية آنذاك بأن الحوتري الذي تسلل من مدينة قلقيلية في الضفة الغربية، دخل الى مستشفى إسرائيلي وهو في الطريق لتنفيذ عمليته، وفي ذلك المستشفى أخذ قسطاً من الراحة، وتناول شربة من الماء، ثم غادر باتجاه الملهى الإسرائيلي في تل أبيب، وأفادت التحقيقات آنذاك بأنه لو نفذ عمليته في ذلك المستشفى المزدحم لأوقع عدداً أكبر من القتلى والجرحى، لكنه لم يفعل ذلك، وقرر أن يواصل طريقه حتى بلغ هدفه النهائي الذي هو الملهى الليلي. خلال الحرب الحالية انتهكت إسرائيل كل هذه المحرمات، واستهدفت المستشفيات والصحافيين، دون أي اعتبار، وصولاً إلى المجزرة الأكبر التي استهدفت صحافيي قناة «الجزيرة» في غزة، حيث استشهد المراسل الأبرز والأشهر أنس الشريف، الذي بدأ عمله من شمال غزة في بداية هذه الحرب، ومعه زملاؤه من الصحافيين والمصورين والمعاونين. باستشهاد أنس الشريف ومحمد قريقع ومن معهما من مصورين وصحافيين تكون غزة قد تحولت الى أكبر مقبرة للصحافيين في العالم، حيث اغتالت قوات الاحتلال 238 صحافياً منذ بداية الحرب على غزة في الثامن من أكتوبر 2023 وحتى ليلة المجزرة التي استهدفت قناة «الجزيرة». وهذا أكبر عدد من الصحافيين يسقط في صراع عسكري منذ الحرب العالمية الثانية، هي مجزرة لم يعرف لها العالم مثيلاً منذ عقود.
ترتكب إسرائيل هذه المجزرة بحق الصحافيين في غزة في الوقت الذي تمنع فيه أيضاً الصحافيين الأجانب من دخول القطاع لتغطية ما يحدث هناك، وهذا يؤكد أن الأمر لا علاقة له بحركة حماس، ولا بالانتماءات المزعومة لهؤلاء الصحافيين، وإنما هي مجزرة مدبرة تهدف إلى التوقف عن نقل الصورة، ونقل الخبر وإبلاغ العالم بما يجري من حرب إبادة، خاصة أن المعلومات التي تتسرب من غزة والصور التي يبثها هؤلاء الصحافيون هي السبب الأهم في تحول الرأي العام العالمي وتفنيد الرواية الإسرائيلية. ولو كان اغتيال الشريف بسبب انتمائه الى حركة حماس كما يزعم الجيش الإسرائيلي، فهل كانت الشهيدة شيرين أبو عاقلة (مسيحية) تنتمي إلى حماس أيضاً، عندما قرر الإسرائيليون اغتيالها في الضفة الغربية قبل عامين من الحرب؟! استهداف الصحافيين في الأراضي الفلسطينية، سواء من العاملين في الجزيرة أو غيرها، يؤكد وجود قرار إسرائيلي بقمع الخبر ومنع نقل صورة ما يجري، وعندما تُقرر إسرائيل منع الصورة والخبر من الانتقال، فهذا يعني أنها تقوم بارتكاب جريمة كبيرة، بل إنها تنوي توسيع هذه الجريمة أيضاً. وفي الوقت ذاته فان استهداف الصحافيين، واغتيالهم يؤكد أن إسرائيل ضاقت ذرعاً من التحول الكبير في الرأي العام العالمي تجاه ما تقوم به، وبدأت تشعر بأنها تخسر معركة الرأي العام في الدول الغربية، التي ظلت الحامي لها طوال العقود السبعة الماضية.
بفضل هؤلاء الصحافيين فإن العديد من الدول الغربية اضطرت إلى فرض عقوبات على إسرائيل، وتتجه لمزيد من هذه العقوبات كلما تصاعدت وتيرة ضغط الرأي العام، وبفضلهم أيضاً فإن العديد من دول العالم قررت أو تدرس اتخاذ قرار بالاعتراف بدولة فلسطين، رداً على حرب الإبادة التي تريد محو الشعب الفلسطيني، وآخر هذه الدول هي أستراليا التي أخذت القرار ونيوزيلندا التي تدرس اتخاذ قرار مشابه. اغتيال صحافيي الجزيرة وغيرهم يندرج في إطار معركة الرأي العام التي بدأت إسرائيل تشعر بأنها تخسرها، ولذلك فإنها تريد إسكات الأصوات التي تنقل ما يجري للعالم الخارجي، كما تريد معاقبتهم والانتقام منهم، وتريد أن توقف الصوت الذي ينقل تفاصيل حرب الإبادة اليومية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني.