
من هيروشيما وناغازاكي إلى غزّة… التوحّش والتزييف
أسامة أبو ارشيد
حرير- قبل 80 عاماً، في السادس من أغسطس/ آب 1945 تحديداً، ألقت طائرة عسكرية أميركية قنبلةً ذرّيةً على مدينة هيروشيما اليابانية، أدّت إلى مقتل حوالي 140 ألف ياباني وإصابة عشرات الآلاف. بعد ثلاثة أيام (9 أغسطس)، ألقت طائرة عسكرية أميركية أخرى قنبلةً ذرّيةً ثانيةً على مدينة ناغازاكي، أودت بحياة 74 ألف ياباني وتسببت بإصابة عشرات الآلاف. ستّة أيام بعد ذلك (15 أغسطس)، أعلنت اليابان استسلامها في الحرب العالمية الثانية. … ما سبق فصل واحد فحسب في سيرورة التاريخ الوحشي الأميركي، الذي لا يتردّد في ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضدّ الإنسانية إذا قرّر قادة واشنطن، ديمقراطيين كانوا أم جمهوريين، أن ذلك في مصلحة الدولة. جرى ذلك من قبل مع السكّان الأصليين لما يعرف اليوم بأميركا الشمالية، والذين أبيد ملايين منهم على أيدي المستوطنين الأوروبيين، ثمَّ خَبِر ذلك الفيتناميون والعراقيون، وغيرهم من الشعوب. المفارقة، أن الولايات المتحدة ارتكبت تلك الجرائم كلّها وهي تتذرّع بـ”التفوق الأخلاقي” أو بحفظ السلم الدولي.
مثلاً، برّر الرئيس هاري ترومان قراره استخدام قنبلتَين ذرّيتَين في هيروشيما وناغازاكي بأن في ذلك إنقاذاً لأرواح مئات آلاف من الأميركيين وقوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، بل وكذلك اليابانيون أنفسهم، في حال كان هناك اجتياح برّي لليابان حينها. بمعنى أنه ربّما كان على اليابانيين أن يشكروا الولايات المتحدة لا أن يدينوها، فالقتل كان تحصيل حاصل، لكن الأميركيين أحسنوا القتلة (!). قد يقول بعضهم إن ذلك تاريخٌ مضى، لكن الحقيقة غير ذلك، إذ إن ماضي الولايات المتحدة، والإمبريالية الغربية عموماً، هو حاضرها، وسيبقى هو مستقبلها ما لم يتم التصدّي لسياساتها الظالمة. وإذا أردتَ دليلاً فلا تذهب إلى أبعد من قطاع غزّة، حيث تبيد إسرائيل وأميركا شعباً بأكمله، في وقتٍ يتذمّر فيه دونالد ترامب من أن بلاده لا تجد امتناناً كافياً على ما يزعمه من مساعدات إنسانية تقدّمها لقطاع غزّة. إنه الماضي الحاضر، أو الماضي المستمرّ، أو الماضي الحيّ الذي ليس له تاريخ انتهاء صلاحية.
قبل 80 عاماً، عندما حزم ترومان قراره باستخدام القنبلة الذرّية ضدّ اليابان، كان يعلم أن اليابان مستعدّة للاستسلام، ولكنّها كانت تريد التفاوض على شروط ذلك، مثل بقاء الإمبراطور هيروهيتو في عرشه، والذي بالمناسبة أبقت عليه الولايات المتحدة إمبراطوراً بعد ذلك، ولكن منزوع الصلاحيات. كما كانت واشنطن على دراية تامّة بالرسائل المتبادلة بين طوكيو وموسكو، تفاوض فيها الأولى على استسلام مشروط. أيضاً، كان الزعيم السوفييتي (حينئذ) جوزيف ستالين قد وعد قوات الحلفاء بالانضمام إلى الحرب ضدّ اليابان بحلول 15 أغسطس، بمعنى أن اليابان كانت مهزومةً لا محالة. لكن ترومان ومساعديه كان لهم رأي آخر في كيفية حدوث تلك الهزيمة. أسابيع قبل ذلك، تلقّى ترومان تقريراً عن نجاح اختبار “ترينيتي” الذرّي في صحراء ولاية نيومكسيكو. … إذاً، طوّرت الولايات المتحدة سلاحاً فتّاكاً جديداً، لكنّه لم يجرّب بعد في حرب حقيقية، وكان لا بدّ من تجريبه ومعرفة فعّاليته الرهيبة لتدشين عصر دولي جديد تسوده أميركا، وبالتالي، لا حاجة للولايات المتحدة لمساعدة السوفييت، ولا لتقاسم النفوذ معهم في اليابان. كانت النتيجة استخدام السلاح النووي ضدّ اليابان، لتكون الولايات المتحدة أول وآخر دولة تستخدمه. ورغم ذلك تعاقب إيران، واعتدت عليها عسكرياً، بذريعة منعها من تطوير وامتلاك سلاح نووي، تزعم واشنطن وتلّ أبيب أنها (إيران) لن تتردّد في استخدامه.
منذ عام 1945، لم تعتذر الولايات المتحدة عن استخدامها السلاح النووي وقتلها عشرات الآلاف من اليابانيين من دون سبب حقيقي يستدعي ذلك. وعندما زار الرئيس الأسبق باراك أوباما هيروشيما (مايو/ أيار 2016)، ليكون أول وآخر رئيس أميركي يفعل ذلك منذ الهجوم النووي عليها، لم يجد الجرأة الأخلاقية ليعتذر عن الهجوم الأميركي، وهو يتحدّث إلى بعض الناجين منه. أقصى ما ذهب إليه الدعوة إلى عالم خالٍ من الأسلحة النووية. أيضاً، كان السفير الأميركي في اليابان حاضراً وهيروشيما تحيي (أول أمس) الذكرى الثمانين للهجوم الأميركي عليها، ولكنّه لم يعتذر. كان حاضراً كمجرم يُشيّع جنازة ضحيته. الفارق هنا أن القاتل معروف وأهل القتيل يعرفون أنه الجاني، ولكن من يجرؤ على تحدّيه؟
الحكاية الأميركية في هذا السياق طويلة، ومحطاتها كثيرة، ونحن نعيش فصلاً آخر من فصولها في غزّة. 22 شهراً من حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة تختزل هذه الحكاية. هذه حرب إبادة دعمتها (ولا تزال) الولايات المتحدة تحت إدارتَين ديمقراطية وجمهورية. بمعنى، لا فرق هنا بين الرئيس السابق جو بايدن، الذي كان مهووساً بترديد كذبة “النموذج الأخلاقي الأميركي”، وترامب الذي لا يستحي من أن يدوس كلّ قيمة أخلاقية تحت قدميه، وأمام أنظار العالم كلّه. أُبيد سكّان غزّة بسلاح أميركي وبحماية أميركية لإسرائيل تحت إدارة بايدن، والإبادة مستمرّة اليوم بسلاح ودعم أميركي تحت إدارة ترامب. وجُوِّعت غزّة خلال فترة بايدن، وهي تُجوَّع اليوم في ولاية ترامب. إنها جينة التوحّش نفسها في السياسة الخارجية الأميركية، بغض النظر عن قاطن البيت الأبيض، وعن حزب الأغلبية في الكونغرس.
“مؤسّسة غزّة الإنسانية”، الأميركية – الإسرائيلية، الموكل إليها توزيع المساعدات الإنسانية لسكّان غزّة، ما هي إلا شاهد آخر على ذلك التوحّش، فمراكزها لتوزيع المساعدات هي مصائد موت وحقول قتل لطالبيها من المدنيين الغزّيين على أيدي مرتزقة أميركيين وجنود إسرائيليين. هذه ليست اتهامات، بل حقائق تؤكّدها شهادات متعاقدين أميركيين وجنود إسرائيليين لم تسمح لهم ضمائرهم بالتستر على وحشية وجرائم “مؤسّسة غزّة الإنسانية”. ومع ذلك، يخرُج علينا ترامب مطالباً سكّان غزّة بإبداء الامتنان على 60 مليون دولار مساعدات إنسانية قدمتها الولايات المتحدة لهم، ولكن حركة حماس تسرقها (!). لا نحتاج كثير جهد في تكذيب مزاعم ترامب، ذلك أن تقريراً اًصدرته الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، في يونيو/ حزيران الماضي، كشف النقاب عنه أخيراً، يفنّد تلك الأكذوبة. ما يفعله الجمهوري ترامب في غزّة هو ما فعله الديمقراطي ترومان عام 1945 في اليابان، محاولة تجميل وجه قبيح لجرائم إبادة ارتكبتها وترتكبها الولايات المتحدة.



