هل زيادة الرسوم الجمركية ضرورة أمريكية أم اختيار؟

د. مثنى عبد الله

حرير- اتخذ قرار الرئيس الأمريكي بفرض رسوم جمركية على منتجات دول العالم وخاصة الصين، وما قابله من قيام الرئيس الصيني شي جين بينغ بفرض زيادة في الرسوم الجمركية على البضائع الأمريكية، اتخذ بُعدا شخصيا يمس شخصية الرجلين في الكثير من التحليلات حول الموضوع. بمعنى أن هنالك رئيسا أمريكيا متهورا، يقابله رئيس صيني عقلاني يحاول الحد من تهوّره، وهذا وصف أو تحليل غير منطقي ولا علمي.

إن التشخيص الضمني للمشكلة في الولايات المتحدة الأمريكية، هي الدين العام والعجز التجاري الخارجي، وهي مشكلة حقيقية وهيكلية يمكن أن تؤدي بالولايات المتحدة إلى أزمة خانقة، على الصعيد الداخلي، وكذلك على المستوى الدولي. وعندما يكون هنالك عجز خارجي في الولايات المتحدة، فمعنى ذلك أنه سيؤدي إلى أزمة مالية أو أزمة نقدية عالمية، وهذا بالضرورة سيقود إلى انهيار النظام النقدي العالمي ككل، وعليه فإن وضع حل هو ضرورة قصوى، ليس فقط من قبل الولايات المتحدة، بل من قبل دول العالم كافة.

ولطالما كانت أمريكا تموّل اقتصادها عن طريق العجز في الميزان التجاري الخارجي، على اعتبار الدولار والنظام النقدي العالمي قائما على هذا الواقع، بالتالي ومع الوقت أصبح هذا الدين الخارجي، أو دين العالم على الولايات المتحدة يوازي 2% من ناتجها القومي، وقد شعرت هي بذلك، وبدأت في معالجة هذه المشكلة شيئا فشيئا منذ فترة وليس الآن فقط. والمعالجة لا بد أن تتم أولا بخفض الطلب الداخلي في الولايات المتحدة. ثانيا خفض قيمة الدولار في السوق الأمريكية، وثالثا دفع الاقتصاد الأمريكي إلى حالة الركود، هذه هي الحلول التقنية التي لا بد منها لمعالجة الوضع القائم. أما ما يفعله دونالد ترامب فهو تصدير المشكلة الداخلية في الولايات المتحدة الى العالم، أي عمليا أن هناك نظاما نقديا عالميا مريضا، ويجب على الكل تحمل مسؤوليته، وهذه الرؤية الترامبية، ربما هي نوع من التكتيك أو الاستراتيجية، وهناك من يعتقد أنها تكتيك ذكي من ترامب، بدايته عمل صدمة في الاقتصاد، ثم حصول خسائر كبرى، ولكن في النهاية وبهذه القرارات، سيكون التضخم وفق هذه القرارات هو الدواء على المدى الطويل، لأن التضخم ليس مشكلة والركود أيضا ليس مشكلة في الولايات المتحدة، لأنه منذ أكثر من أربع سنوات وقطار النمو الأمريكي في سرعته القصوى، فلا ضير أن يكون هناك ركود اقتصادي لسنة أو سنتين، وعليه فإن زيادة الرسوم الجمركية، وبالشكل الذي تُطبق فيه ليس لها أهداف تجارية، إنما هي أداة لدفع كل الأطراف الى الجلوس إلى مائدة التفاوض لماذا؟ لأنه منذ شهر تقريبا طلب ترامب من المصارف المركزية كافة خفض قيمة الدولار، لإعادة التوازن إلى ميزان المدفوعات، لكن المصارف لم تستجب لدعوته، وعليه ستضطر الحكومة الأمريكية للدخول الى سوق السندات والاستدانة بـ9 ترليونات دولار في 2026. وبما أن أسعار الفائدة مرتفعة جدا، فلن تستطيع الحكومة الأمريكية تحملها، لأن الإنفاق العام والدين العام كبيرين جدا.

هذه هي الحلول التي تريدها الولايات المتحدة، ولكن أسلوب ترامب هو الذي يدفع باتجاه الفوضى، وتأجيله تطبيق الرسوم الجمركية لمدة ثلاثة أشهر، هو عمليا ليس تغييرا في التكتيك، إنما بسبب ضغط سوق السندات على الولايات المتحدة، وعندما تُستخدم الأداة الجمركية تنخفض أسعار الفائدة، لكن خلال الأيام الماضية ارتفعت الفائدة وبشكل كبير، وبدا سوق السندات لا يعمل بالشكل الطبيعي، وحصل ضعف في السيولة النقدية، وتقلبات حادة في الأسواق، وهذا كله دفع بكل من الصين واليابان لبيع السندات. وهذا إجراء غير طبيعي لأنه عادة في حالات الأزمات يتم شراء سندات الولايات المتحدة وليس بيعها. ويبدو أن هذا الفعل جعل الولايات المتحدة تنتبه وتغير تكتيكها، وأصبحت الصين هي المستهدف، لأنها الدولة الوحيدة التي لم تجنح لمفاوضتها، بل ذهبت لرفع التسعيرة الجمركية على البضائع الأمريكية.

وهنا يجب القول إن هناك جزءا كبيرا من شخصية ترامب، هي جزء كبير من المشكلة الحقيقية التي تبرز اليوم، ومع ذلك فالمشكلة الحقيقية هي مشكلة داخلية في الولايات المتحدة، وفريق ترامب يعي جيدا أنه لا يوجد للولايات المتحدة أية هوامش اليوم، سواء كان في السياسة المالية أو السياسة النقدية، أو السياسة الضريبية، لسلوك أي طريق يؤدي لنتائج إيجابية على المدى المتوسط والمدى الطويل، إلا في هذه السياسة التي يتبعها ترامب. واليوم في المضمون، ما يقوم به ترامب هو عمليا متناسق اقتصاديا. بالتالي يجب أن تسلكه الولايات المتحدة، وبعكسه ستكون هنالك أزمة وإفلاس للولايات المتحدة. وعليه فإنها تضع المشكلة على الطاولة، وعلى دول العالم كافة أن تساعد فيها. وترامب وفريقه يقولون إن دول العالم استفادت من الانفتاح الاقتصادي مثل، أوروبا واليابان، خاصة الصين، التي منذ عام 1985 كونت ثروتها بسبب الانفتاح على النظام التجاري العالمي الجديد. واليوم أتت ساعة رد الجميل كما يقولون. والحقيقة هي أنه لا يمكن للصين ولا أي دولة في العالم التخلي عن سوق استهلاكي بهذا الحجم في الولايات المتحدة، حيث 70% من النمو فيه هو في قطاع الخدمات ومن الاستهلاك. بالتالي لا يوجد مثيل له في العالم، كاقتصاد وكسوق استهلاكي ذي طلب كبير في العالم. وعليه فالولايات المتحدة تشعر بالرفاهية عندما تقول إن على العالم أن يساعد في حل المشكلة.

إن الأسلوب السيئ جدا من دونالد ترامب في معالجة هذه الأزمة سوف يقوّض الثقة بالدولار وبالاقتصاد الأمريكي أيضا، بعكس ما هو مطلوب حاليا من زيادة الثقة به ودعمه، لان المشكلة هي عدم وجود بديل عن الدولار وعن نظام النقد العالمي. بالتالي ليس من مصلحة كل الدول الدخول في هذا المعترك الكبير مع الولايات المتحدة، إنما الذهاب إلى طاولة المفاوضات لإيجاد حل، وهذه فرصة كبيرة لأوروبا للنهوض عمليا لأن الكثير من الاستثمارات، سوف تأتي إليها نتيجة هذه الضبابية. ومع ذلك لا يتصور أحد أن الولايات المتحدة ضحية في هذا الملف، المشكلة هي مشكلة عالمية ويجب على الجميع المساهمة في وضع حل لها بما فيها الصين، لان مصلحة الصين مرتبطة بواحد ترليون دولار سندات أمريكية لديها.

يقينا سيكون في الأيام المقبلة مشهد لحل جدي وعملي، لان السؤال الآن هو هل الأفضل اللجوء الى التفاوض، أم التصادم ثم الحرب؟ وعمليا دائما ما كانت بعد الحروب التجارية هنالك حروب عسكرية.

مقالات ذات صلة