
الخطر الحقيقي على سوريا ولبنان
عبد الحليم قنديل
حرير- دمشق في خطر وكذلك بيروت، وبعيدا عن قصص « دمشق لنا إلى يوم القيامة»، وعاصمة بنى أمية وغيرها، وما شاكلها وما عاكسها من شعارات وملاسنات تاريخية لا معنى لها في الواقع ولا في المستقبل، فإن دمشق اليوم ـ للأسف ـ تحت رحمة غارات ونيران كيان الاحتلال «الإسرائيلي»، وقد يقال إنها كانت كذلك في عهد بشار، الذي لا يبكيه أحد عاقل، وهذا صحيح تماما، لكن دمشق انزلقت مع هروبه وبعده إلى هوة دمار سحيقة، وانقضى ذكر الجيش السوري، الذي جرى تسريحه قبل التغيير في ملابسات لا تزال غامضة، ثم جرى حله رسميا، وإلغاء مبدأ التجنيد الوطني العام، تماما كما جرى في العراق قبل عقود مع غزوة الاحتلال الأمريكي وتوابعها، وانتهينا إلى انكشاف مرعب، دمرت معه «إسرائيل» كل مقدرات السوريين العسكرية ذات القيمة، برا وجوا وبحرا، وصرنا أمام فصائل متناحرة، وحملات استنفار وتكفير ومجازر، تهدد بحرق ما تبقى من سوريا الحبيبة، وتدمير وحدتها المركزية من حول العاصمة دمشق، والاتجاه إلى تحويل البلد العربي المشرقي الأهم إلى كانتونات باسم «الفدرلة» واللامركزية وغيرها، وإذكاء احترابات الدم الأهلية والطائفية والعرقية والقبلية، واستنجاد أطراف مريبة بكيان الاحتلال «الإسرائيلي»، الذي دخل مباشرة بالنار على خطوط الدم .
وقد لا يكون هذا هو الوقت المناسب لتوزيع الاتهامات في محنة سوريا، فطلب النجدة من العدو «الإسرائيلي»، الذي لا يزال يحتل هضبة الجولان السورية بمساحة 1860 كيلومترا مربعا، أضاف إليها احتلاله لمساحة تقارب 700 كيلومتر مربع في جبل الشيخ والجنوب السوري، مع فرض نزع السلاح العسكري إلى جنوب دمشق، والاستنجاد بالعدو المحتل خيانة لا ريب فيها، لا تقل عنها خطورة سياسة الاستنجاد بالأمريكيين، وطلب العطف من إدارة دونالد ترامب، ومبعوثه إلى سوريا ولبنان توماس براك، الذي يقال إنه من أصول لبنانية بعيدة، بينما هو في السياسة «إسرائيلي» أكثر من «الإسرائيليين» أنفسهم، وبراك ـ كما هو معروف ـ سفير واشنطن في تركيا، التي حل نفوذها محل النفوذ الإيراني المطرود من سوريا، مع ذهاب حكم «بشار» الافتراضي.
لكن تركيا بحساباتها الذاتية المعقدة، لا تميل إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع «إسرائيل» في سوريا، فوق أن الأطراف الخليجية الداعمة سياسيا واقتصاديا للوضع الحالي في سوريا، لا يخطر على بالها ولا على بال أحد، أن تخاطر بشبهة مواجهة جدية مع كيان الاحتلال، وبعضها منغمس إلى أذنيه في اتفاقات «إبراهيمية» حليفة لكيان الاحتلال، وآخرون يفكرون في الالتحاق بالقطار، ويسعون إلى توريط سوريا ذاتها في هلاك التطبيع، جزئيا أو كليا، وبدعوى تنمية الاستثمار في سوريا المنهكة بدمار 14 سنة من الحروب الداخلية والكونية، بينما إسرائيل، وأمريكا معها، لها حسابات مختلفة، فهي تريد إلحاق سوريا كلها بظل السيف «الإسرائيلي»، ونشر الفوضى وإدامة الحروب الأهلية، وإقامة «ممر داوود» من السويداء عبر دير الزور، إلى منطقة شمال شرق سوريا، حيث نفوذ الأكراد وجماعة «قسد»، وتتعامل مع الوضع السوري كغنيمة حرب، وكساحة مثالية للتقسيم الفئوي والطائفي والعرقي، الذي تسعى إليه، وتعتبر سوريا قلب شرق أوسطها الجديد، ولا يردعها رادع عربي ولا إقليمي، وتطبق المبدأ الاستعماري التليد «فرق تسد»، فهي لا تحب ولا تكره طائفة ولا فصيلا بذاته، إلا بقدر ما يقدمه الطرف المعني من فرص لتفتيت سوريا، ومنع نهوض دولة عربية سورية جامعة من جديد، فقد واتاها الظرف الذي لا تريد أن تضيعه، وكما نصت وثيقة (استراتيجية إسرائيل في الشرق الأوسط) المنشورة قبل أكثر من أربعين سنة، فهي تسعى لإقامة خمس دويلات متناحرة في سوريا، يتلاشى معها أي خطر قد يأتيها من سوريا، وخطة «إسرائيل» تحظى بتأييد دائم تلقائي من واشنطن، وأيا ما كانت الإدارة جمهورية كانت أو ديمقراطية، وقد يحلو لبعض العرب اسما، أن يواصل التضليل، وأن ينفخ في تسريبات مصنوعة تدعى معارضة في واشنطن لسلوك حكومة الكيان في سوريا، بينما المقاول براك قالها ببساطة، وأقصى ما أبداه من معارضة لغارات «إسرائيل» المدمرة لمقار وزارة الدفاع السورية وبالقرب من القصر الجمهوري، أن وصفها العجوز المخادع أنها جاءت في «توقيت غير مناسب»، ثم أضاف أنه لا بد من محاسبة الحكومة السورية على الانتهاكات، رغم ما سبق من تصريحات براك المحتفية الداعمة المشجعة لسلطة دمشق، ورفع كامل العقوبات عنها، ثم زاد براك الأمر وضوحا وقطعا عند ذهابه إلى بيروت بعد دمشق، وقال بصراحة «إننا ـ أي واشنطن ـ لا نستطيع إلزام إسرائيل بأي شيء»، لا في سوريا ولا في لبنان .
كانت أقوال براك الثرثار كاشفة، فليس لدى واشنطن أي اعتراض حقيقي على ما تفعله «إسرائيل»، إنما هو تكامل وشراكة وتوزيع للأدوار، وفى سياق تصور واحد حاكم، فرغم اختلافات ظاهرة في الوضع الرسمي الراهن بين سوريا ولبنان، إلا أن السياسة الأمريكية «الإسرائيلية» هي ذاتها، فقد تظاهرت واشنطن في البداية أنها ضد استمرار وجود «المقاتلين الأجانب» في سوريا، ثم سحبت اعتراضها على وجود غير العرب من الشيشان إلى الإيغور وعصائبهم الحمر، وأبقت الاعتراض فقط على شبهة وجود مقاومين فلسطينيين من «حماس» و»الجهاد الإسلامي»، فلا تبالى واشنطن بإذكاء نيران القتل داخل سوريا، وكل ما يهمها ألا يبقى أحد يفكر في معاداة «إسرائيل» ولو بالنوايا، ومبعوث العناية الأمريكية براك أعلن ذات مرة، أنه لا يوافق على تقسيمات «سايكس ـ بيكو» في المشرق العربي، وفهم البعض أنه لا يشجع المزيد من التفكيك، بينما كان المعنى الحقيقي هو العكس بالضبط، فقد كانت «سايكس ـ بيكو» تجزئة للأمة إلى أقطار، وعلى نحو ما جرى في تقسيم سوريا الكبرى إلى أقطار سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، لكن الواقع المشرقي في العقود الأخيرة تدهور إلى ما هو أسوأ، وكدنا ننتقل من باب «تجزئة الأمة إلى أقطار» إلى تفكيك لا نهائي، تجرى فيه تجزئة الأقطار إلى أمم طائفية وعرقية وقبلية صغرى، وهو ما تعمل عليه «إسرائيل» اليوم ومعها واشنطن، وما يكشف الهدف الحقيقي لوساطات براك السامة، وقد توالت جولاته إلى بيروت وبهدف واضح معلن للكافة، بدا براك فيه أقل في الوقاحة اللفظية من سابقته الصهيونية الفجة مورغان أورتاغوس، الهدف ببساطة هو نزع سلاح «حزب الله»، وإخلاء لبنان كما سوريا من أي معارضة باللسان أو باليد للتوحش الأمريكي الإسرائيلي، وبدأ براك بخديعة صدقها بعض اللبنانيين، وبدعوى مقايضة نزع سلاح حزب الله مقابل إجلاء الاحتلال «الإسرائيلي» في الجنوب، وحين فوجئ بردين متتابعين من الترويكا اللبنانية (رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة مجلس النواب)، كان فحواهما محددا، ويطلب تقديم خطوة مشجعة بإنهاء الاحتلال، وحاول براك تمييع القصة كلها، وممارسة الضغط الأقصى على القيادات اللبنانية الرسمية، وطرح مقولة إن سلاح حزب الله مشكلة داخلية لبنانية، أما جلاء «إسرائيل» فلا حيلة لواشنطن فيه لأنها «لا تستطيع إلزام إسرائيل بأي شيء»، وهكذا انفضحت الخدعة كلها، فواشنطن تريد إشعال لبنان داخليا ودفع الجيش اللبناني إلى صدام مسلح مفتوح مع «حزب الله»، قد يكون الأخطر بمراحل من كل حروب لبنان الأهلية السابقة، مع أن «حزب الله» ليس جماعة ميليشيا داخلية، كما كان الأمر عليه في ميليشيات الحرب الأهلية (1975 ـ 1990)، التي لم يكن «حزب الله» طرفا فيها، بل قام تكوينه المسلح في مواجهة وبمناسبة الاحتلال «الإسرائيلي»، ولم يكن أبدا ـ باستثناءات نادرة ـ مشكلة داخلية لبنانية كما يدعى براك، الذي ينسق عمله الدبلوماسي مع العدوان العسكري اليومي لكيان الاحتلال، الذي ترفض واشنطن التعهد بوقفه أو بلجمه، وتحشر لبنان الرسمي في زاوية ودور وحيد مفترض، أن يشن حربا داخلية ضد قوات «حزب الله» ومخازن صواريخه وسلاحه، ودفع جماعات «إسرائيل» اللبنانية إلى الدخول في الحرب ضد «حزب الله» وقاعدته الاجتماعية، وإتاحة الحق لكيان الاحتلال في الدخول على خط النار «الأهلية» مع حزب الله، وإقامة حدود دم تفصل الطوائف اللبنانية، وربما مد الاحتراب الطائفي إلى سوريا وحدودها السائبة مع لبنان، وتغذية الثارات والأحقاد بين السنة والشيعة في عموم لبنان وسوريا .
وقد يفيد التعقل واستدعاء الحكمة في تجنب مصائر مفزعة تراد لسوريا ولبنان معا، لكن الضمانة الأكبر تبقى في كشف موارد الخطر الجامع، وفى مواجهة خطط وقوات العدو «الإسرائيلي» الأمريكي، وهم قادة وصناع الفتنة قبل وبعد فصائل وزعماء الطوائف والقبائل .