المبادئ فوق ـ الدستورية واستحقاق الديمقراطية

سامح المحاريق

حرير- كثيرا ما تجادل المختصون في الشؤون السياسية بأن أفضل طريقة لكشف هشاشة طروحات الإخوان المسلمين هي أن يتسلموا السلطة فعليا، وأن يوضعوا أمام اختبارات حقيقية تجعلهم عاجزين عن تقديم مقاربات أخرى، غير التي تقدمها بقية التيارات السياسية، من غير الاختباء وراء شعارات فضفاضة مثل «الإسلام هو الحل»، وحاولت بعض الدول أن تطبق ذلك جزئيا أو كليا من خلال إتاحة الفرصة لأعضاء الإخوان المسلمين للوصول إلى مناصب متقدمة، وكانت هذه التجارب تفضي إلى بناء تصورات لدى الجمهور السياسي، وتدفع الإخوان المسلمين إلى مراجعات واسعة، تمكنهم من استعادة مواقعهم بصورة أو بأخرى، سواء في منظومة السلطة أو المعارضة.

الخوف الرئيسي الذي دفعه البعض من التجارب الإسلامية هو، تصور يقوم على انقلابهم على الديمقراطية، وتوظيف مفاهيم مثل الحاكمية واستغلال المشاعر الدينية في مهمة تجعل تداول السلطة مستغلقا، وتمكنهم من الانفراد بالسلطة، وهو الأمر الذي دفع بعض المثقفين المصريين، الذين شكلوا نواة المعارضة المدنية أثناء حكم الإخوان، لطرح مفهوم المبادئ فوق ـ الدستورية، لتكون عائقا أمام محاولة ركل السلم الذي تتسلقه أي فئة بعد وصولها للسلطة، لتحول دون استكمال العملية الديمقراطية بالصورة اللازمة.

ظهرت هذه المبادئ في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وارتدادات الاستغلال السيئ للديمقراطية في التجربة النازية، وتشكلت بصورة رئيسية من المواثيق الدولية مثل حقوق الإنسان، وجملة من المبادئ مثل، سيادة القانون واستقلال القضاء، وهذه المبادئ تشكل ضمانة مبدئية لتجنب التعسف بالسلطة. يفترض أن يحمي المجتمع ككل مبادئه فوق الدستورية، أي أن تكون موضوعات مثل، الحريات والكرامة الإنسانية، غير مطروحة أصلا للنقاش بوصفها منحة من الدولة التي عليها أن تقدم تعهدات كاملة لرعايتها بصورة مستمرة ومتواصلة، وضمن هذه المبادئ يمكن تحقيق التعايش بين السلطة ومعارضيها، وبين الأغلبية والأقليات، ولهذه المبادئ أهميتها القصوى في المجتمعات التي تعيش رحلة تطورها التاريخي والاجتماعي تجاه الحداثة، أو التي تتصف بالتشظي العرقي أو الطائفي. دفع المثقفون المصريون بمقولة المبادئ فوق ـ الدستورية في مواجهة الإعلان الدستوري المكملة، الذي أطلقه الرئيس محمد مرسي في نوفمبر 2012، حيث كان البعض من مواده قد تحصن بها بعض مجلس الشورى، الذي اصطبغ بمناصري الإخوان المسلمين والتيارات السلفية، رغم أن بقية مواده كانت تستكمل مطالبا لثورة يناير، وتمنح الرئيس مرسي أدوات لمواجهة الدولة العميقة التي خلفها نظام الرئيس حسني مبارك، وكان الدافع الأساسي هو التخوف من انفراد الإخوان بالسلطة، الأمر الذي أدى إلى تفاعل الأحداث ليقبض الجيش من جديد على المشهد السياسي ومعطياته، في استغلال للعلاقة المضطربة بين الإخوان وبقية القوى المدنية.

فكرة المبادئ فوق ـ الدستورية ما زالت غير ناضجة في الدول العربية، فالدساتير نفسها لا تحظى بالعناية اللازمة، ويجري التعامل معها بكثير من الاستهانة وكأنها مجرد حلية شكلية للدولة الحديثة، ولكن ما تثبته المتابعة للبنى القانونية في الدولة الحديثة يدلل على أهمية ما هو فوق ـ دستوري مقابل ما هو مدون في الدستور، فبريطانيا وكندا ونيوزلندا دول ليست لها دساتير مكتوبة أو متكاملة، حسبما هو متعارف عليه عالميا، إلا أن القوانين الأساسية والمبادئ العامة هي التي تحكم الحياة السياسية، وبطبيعة الحال، القناعات العميقة القائمة بالقيم الإنسانية الأساسية التي ليست موضوعا للتفريط ولا يمكن النكوص عنها. كم تحتاج الدول العربية، التي تعاني من تداول السلطة، إلى استحضار هذه المبادئ لتكون مدخلا للتجربة والخطأ، بوصفهما أداتين مهمتين في بناء التراكم التاريخي، ولكن ذلك لا يمكن حدوثه في حالة وجود الشكوك في الدستور، التي تنبع أصلا من شعور جمعي بعدم تحقق سيادة القانون. في دولة مثل سوريا وصلت إلى المرحلة التي يمكنها أن تبدأ كل شيء من جديد، أن تعيش لحظة الصفر الكامل، وبما تواجهه من أزمات تقوم على خوف الجميع من الجميع، والخشية من تبادل المواقع في لعبة الانتقام، يمكن أن يكتسب الحديث عن مبادئ فوق – دستورية الزخم المطلوب ليكون مصدرا لتوافق السوريين جميعا، وما يدفع للتفاؤل في ذلك، أن نهج دمشق الرسمي لم يغلق موضوع مرجعية الدولة بقضايا الحاكمية الإلهية، وتفويضها لنخبة من المنضوين في التنظيمات المسلحة، ولكنها لجأت لتأسيس حالة دستورية يمكن انتقادها، ولكن مجرد وجودها في الظرف الراهن كان خطوة إيجابية ورسالة إلى أن سوريا يمكن أن تعود للمجتمع الدولي بالصورة اللائقة، فلا نية لتحويلها إلى دولة منغلقة، ولا لتطبيق نسخة خاصة من طالبان على أراضيها. ولكن هل ما يعني النظام في سوريا هو مخاطبة المجتمع الدولي، والسعي إلى الاندماج إيجابيا معه، ولذلك فهو يقدم المسوغات ويستكمل المتطلبات التي تجعله مقبولا، أم توجد نية حقيقية لاستعادة سوريا بوصفها دولة يمكن أن تحقق نموذجا تنمويا ونهضويا يتسع لجميع مكوناتها على اختلاف أعراقهم وطوائفهم.

تلزم هذه المبادئ في التأسيس لبيئة داعمة للنظام إذا كانت الوجهة أمامه تحقيق سوريا المستقلة ومعالجة مشكلاتها المتصلة لقرون من الزمن، والتي تعد أي محاولة لتغييرها، من حيث شكل الحكم أو هويته، مجرد إضاعة للوقت، لأنها لا تخاطب المشكلات الجذرية والعميقة، وهذه المشكلات تنطلق من مبادئ مثل الحقوق المتساوية، التي تعني فرصا متساوية والتي تحصن الجميع من التعسف والظلم، لا أن تحصر ذلك في فئة معينة، سواء كانت الأغلبية أو الأقلية.

كيف يمكن أن تهبط فكرة ما هو فوق ـ دستوري على شعوب لم تقطع رحلة الوعي اللازمة، ولم تنتج فكرا يساندها؟ غالبا ما تكون هذه الشعوب هي التي يمكن أن تتبنى هذه الأفكار لأنها استنفدت جميع الحلول الأخرى، ولأن السلطة في مرحلة التحولات تصبح عبئا ثقيلا أمام مطالب الشعوب، والطريق الوحيد لتمكين السلطة من الإفلات وراء تفاصيل قانونية مائعة وقابلة للتغيير بمجرد اجتماع لمجالس نيابية شكلية، هو الإبقاء على الكتلة الشعبية حاضرة في التأثير السياسي بمطالبها المستمرة، والتعامل مع المشكلات ضمن التنازلات المقبولة، بمعنى خلق حالة التفاوض السياسي المستمرة تجاه إنضاج مبادئ عامة يمكن إعادة توظيفها في المحطات الخانقة والصعبة في مسيرة الدولة والمجتمع.

كثيرا ما بدت الديمقراطية ومستلزماتها العملية والرمزية فارغة من المعنى في الدول العربية، لأنها افتقدت للمبادئ العامة التي تقف أمام تغول الأغلبية، أو القوة على الجميع، وهذه المبادئ مسؤولية جمعية تختلف من بلد إلى آخر، ولكنها تبقى ضرورية من أجل الهبوط بالدولة إلى أرض الواقع بدلا من بقائها معلقة في أوهامها ووعودها المؤجلة التي تصطدم ببنى قانونية وضعت من أجل الاعتراف الدولي، أو كمجرد اعتياد تنظيمي ليس له عمق حقيقي.

مقالات ذات صلة