فرانشيسكا ألبانيز: لا أحدَ حرٌّ، حتى تتحرر فلسطين.

سليمان المعمري

يسعى كثيرون – ولا يزالون – لترشيح فرانشيسكا ألبانيز؛ المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في فلسطين، لجائزة نوبل للسلام هذا العام، مكافأةً لها على موقفها المبدئي والثابت في إدانة الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل في غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، بعد أن صارت – أي فرانشيسكا – هدفًا مباشرًا لهجوم إسرائيل والولايات المتحدة. وفي رأيي أن جائزة نوبل هي التي تتشرف بهذه المحامية والحقوقية الإيطالية وليس العكس، ففي النهاية لا ننسى أن هذه الجائزة ذهبت أيضًا لمجرم الحرب مناحيم بيجن عام 1979، ولمكسِّر عظام الأطفال الفلسطينيين شيمون بيريز عام 1994، كما أنها ذهبت لأوباما عام 2009 لــ”نواياه” في السلام فقط، التي لم يترجمها إلى أرض الواقع.
ما فعلته فرانشيسكا – ولا تزال تفعله – أكبر من جائزة نوبل ولغطها، يكفي أنها صدحت بالحق ولم تخشَ فيه لومة لائم، في الوقت الذي رأينا فيه صمت العرب وخذلانهم لغزة وأهلها، هؤلاء الذين سيذكّروننا ذات يوم بمقولة مارتن لوثر كينج الخالدة: “في النهاية لن نتذكّر كلمات أعدائنا، بل صمت أصدقائنا”. تؤمن ألبانيز أن “العمل في مجال حقوق الإنسان يعني في المقام الأول أن نكون صوتًا لمن لا صوتَ له” كما صرحت ذات يوم، ومنذ توليها منصبها الأممي الخاص بفلسطين في الأول من مايو 2022 وهي تعلي صوتها بوضوح – وبدون أي تلعثم – للمطالبة بإنهاء احتلال إسرائيل لفلسطين، وحظر تصدير الأسلحة إليها، وإجراء تحقيقات جدية في جرائم الإبادة التي تمارسها ضد الشعب الفلسطيني، بل ومعاقبة الكيانات والشركات التجارية المتورطة في مساعدتها على جرائمها هذه، مُطلِقةً صرختَها المدوية التي تستحق أن تكون شعارًا لكل المتضامنين مع قضية فلسطين العادلة: “لا أحدَ حُرٌّ، حتى تتحرر فلسطين”.
ولأن فرانشيسكا ترتهن فقط إلى ضميرها الحرّ، فقد نشرت في الثلاثين من يونيو الماضي تقريرًا مُعَدًّا للعرض أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، المؤلف من سبع وأربعين دولة، اختارت له عنوانًا لافتًا: “من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية” كشف عن قائمة من حوالي خمسين شركة أمريكية وإسرائيلية متورطة في دعم العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، ومن بينها شركات تقنية كبرى مثل “مايكروسوفت”، و”ألفابت” (الشركة الأم لجوجل)، و”أمازون”، بالإضافة إلى أكثر من ألف شركة أخرى وثقها التقرير ضمن قاعدة بيانات مفصلة، وقد اتهمت ألبانيز هذه الشركات بأنها بعد أن كانت ضالعة في دعم الاحتلال فقط، صارت اليوم تدعم الإبادة الجماعية أيضًا، “لأنها مُربحة للكثيرين”!
كان أمرًا طبيعيًّا إذن أن يخرج وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو؛ أحد أكبر داعمي إسرائيل والصهيونية، عن طوره، ويدرج اسم ألبانيز في التاسع من يوليو الجاري في قائمة العقوبات الأمريكية بزعم أنها “أطلقت تصريحات معادية للسامية دون خجل، وأعربت عن دعمها للإرهاب، وأبدت ازدراءً علنيًّا تجاه الولايات المتحدة والغرب”، وانظروا إلى من يتحدث عن الإرهاب والخجل! وقد ردت فرانشيسكا على هذه التهم بشجاعتها المعتادة: “هذه الهجمات ليست ضدي شخصيًّا، بل هي رسالة تحذير لكل من يجرؤ على الدفاع عن العدالة الدولية. لكننا لا نستطيع أن نصمت، وأنا أعلم أنني لستُ وحدي. الأمر لا يتعلق بي، بل بالعدالة للشعب الفلسطيني في لحظة حاسمة من تاريخه”.
مواقف فرانشيسكا منسجمة تمامًا مع بوصلتها الأخلاقية، وعليَّ أن أذكِّر هنا أن دفاعها عن حقوق الشعب الفلسطيني لم يبدأ بتوليها منصب مقررة حقوق الإنسان في فلسطين عام 2022، وإنما تتويجًا لمواقف عديدة لسنوات طويلة وقفت فيها قبل ذلك مع كثير من المستضعفين في الأرض. وفي عام 2020 صدر لها عن جامعة أكسفورد كتاب “اللاجئون الفلسطينيون في القانون الدولي”، الذي شاركت في تأليفه الباحثَ الهولندي في القانون الدولي ليكس تاكنبرغ. وإذا ما وصفنا هذا الكتاب بأنه مرجع قانوني وحقوقي وأكاديمي مهمّ فإننا لن نجانب الصواب؛ فهو يعرض الجذور التاريخية لقضية اللاجئين الفلسطينيين منذ نكبة 1948، مرورًا بإنشاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) التي عملت فيها فرانشيسكا عشر سنوات خلال الفترة ما بين عامي 2003 و2013، والقرار الأممي 194 الذي ينصّ صراحةً على أنه “ينبغي السماح للاجئين [الفلسطينيين] الذين يرغبون في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم تنفيذ ذلك في أقرب وقت ممكن، وأن يُمنح أولئك الذين يقررون عدم العودة تعويضًا عن ممتلكاتهم، وعن كل خسارة أو ضرر لحق بهم، وفقًا لمبادئ القانون الدولي والعدل”. ويستعرض الكتاب أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان والأردن وسوريا والضفة الغربية وغزة، إضافة إلى أوضاعهم في أمريكا وأوروبا وبقية دول العالم، والصعوبات التي تواجههم على صعيد الوضع القانوني والحقوق المدنية، ويتحدث عن حرمانهم من الحماية الدولية التي يتمتع بها لاجئون آخرون في شتى بقاع الدنيا، بسبب الفصل التعسفي بين عمل وكالة الأونروا وعمل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، كما يناقش الحقوق الأساسية التي يتمتع بها اللاجئ الفلسطيني – وعلى رأسها حق العودة – في ضوء القانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، وقانون اللاجئين.
في النهاية، قد تنجح الدعوات التي أطلقها ملايين المتعاطفين مع فرانشيسكا في إقناع الأكاديمية السويدية باستحقاقها جائزة نوبل للسلام، وقد لا يلتفت أعضاء الأكاديمية لهذه الدعوات ويضعون أصابعهم في آذانهم، لكن هذا لن يغيّر شيئًا من حقيقة أن هذه المحامية والحقوقية الإيطالية ضربت مثالًا يحتذى للصوت الحر الذي لا ينطلق إلا من ضميره وبوصلته الأخلاقية، وللمسؤول النزيه الذي يبعد عنه أي حسابات أخرى حين يتعلق الأمر بنصرة مظلوم ومحاولة مساعدته ودفع الأذى عنه.

جريدة عُمان. عدد الأحد. 20 يوليو 2025:

https://www.omandaily.om/article/1182828

مقالات ذات صلة