
في البحث عن بروكسل عربية!
سامح المحاريق
حرير- أخذت القمم العربية الأخيرة تشهد تراجعا كبيرا في حضور رؤوس الدول العربية الذين ينتدبون نوابهم أو وزراء الخارجية، بما يفقد منظومة القمة العربية حتى الحدود الدنيا من الزخم والقيمة، وما يحدث أن يهتم إعلام الدولة التي تستضيف القمة بوقائعها، وتهتم كل دولة بتغطية أخبار وفدها في حال حضور رأس الدولة لأحداث القمة، ولا يخفى أن بعض الدول التي تستضيف القمة، تأخذ في التواصل على مبدأ العلاقات الشخصية والضغط الأدبي مع الزعماء العرب، بأكثر من قدرتها على إحداث قناعة بأن اجتماعات القمة ستضيف شيئا. لم تكن هذه الحال دائما، وما زال المؤرخون يبحثون ويكتبون في وقائع قمم مثل الخرطوم 1967 والرباط 1974 والقاهرة 1990، فما الذي حدث على مستوى الجامعة العربية، وكيف تحولت إلى مجرد جسد من غير روح؟
توجد مشكلة في الجامعة نفسها من ناحية، وفي القمة العربية كأبرز تجلياتها من ناحية أخرى، أما الجامعة فأخذت مع الوقت تبدو وكأنها إحدى مؤسسات الدولة المصرية، وتتعامل القاهرة مع منصب أمين عام الجامعة على أنه مكافأة نهاية خدمة وتقاعد مريح لوزراء خارجيتها، الذين خدموا مصالحها بالصورة المناسبة، وكان طبيعيا أن تحدث الأقاويل ترشيح رئيس الوزراء المصري، الذي لا يمتلك الخبرة الدبلوماسية مصطفى مدبولي حالة من عدم الارتياح والتململ لدى بعض الدول العربية، لتبدأ طروحات ليست جديدة بالحديث عن أمين عام غير مصري يقود الجامعة، ويحاول الخروج بها من مأزقها المتواصل، وهو الافتراض الطبيعي والمنطقي، إذ إن انتخاب أمين عام غير مصري من شأنه أن يحدث إخلالا لحالة الفتور الإداري والتنظيمي في الجامعة، ويخلق تنافسا صحيا، فالدول التي ستتقدم بمرشيحها لمنصب الأمين، ستعتبر ذلك جزءا من مشروعها وستتحول إلى عامل تحفيزي للجامعة من خلال توظيف إمكانياتها وعلاقاتها تجاه دعم مرشحها.
بطبيعة الحال، يمكن لدورية الأمانة العامة للجامعة، بانتخاب مرشحين من الدول العربية بالتتابع، أن يحقق جانبا من ذلك، مع تخفيف التوتر في الصراع على منصب الأمين، وسيمكن كل دولة من الدفع في دورها بالشخص الذي تراه يمتلك القبول على المستوى العربي، أو السمات الشخصية والمهنية، التي تجعله قادرا على التواصل البناء، من باب إثبات الذات الموجود أصلا في الدول العربية، ويتحول من وقت إلى آخر إلى حالة من التنافسية، أصبحت موجودة وتحت الملاحظة، في مساعي بعض الدول العربية إلى لعب أدوار في الصراعات الدولية أو الإقليمية، والقيام بأدوار الوساطة والتواصل الدبلوماسي. دولة المقر أيضا أصبحت موضوعا يحتاج المراجعة، فمصر في دورها الكبير والمؤثر شبيهة بفرنسا أو ألمانيا في الاتحاد الأوروبي، ولذلك تبدت العقلية الأوروبية في اختيار بروكسل لتكون مقرا للاتحاد الأوروبي، مع توزيع بعض المؤسسات المتعلقة بالاتحاد على دول أوروبية أخرى، وهذه النقلة لو حدثت من شأنها أن تحد من مركزية الدور المصري، والتصورات الذهنية المرتبطة به، وتخلق فضاء مريحا ومحايدا للتواصل بين الدول العربية، في واحدة من الدول التي لا تطرح نفسها في محور أو آخر، ولا تعيش الحسابات الاستراتيجية نفسها، التي تواجهها الدول التي يمكن وصفها بالكبيرة والمؤثرة، بالتالي يتحقق فضاء الالتقاء الجغرافي الصحي مع فضاء من الاستقلالية والندية، يمكن أن تتحاور على أساسه الدول العربية من غير الحديث عن الزعامة التاريخية وملحقاتها النفسية التي وإن لم تظهر علانية تبقى موجودة في طبيعة العلاقات التي تنسج في دولة المقر التي تستأثر في الوقت نفسه بالمنصب الأرفع في منظومة الجامعة العربية.
الاتحاد الافريقي على سبيل المثال اتخذ أديس أبابا مقرا، في وقت لم يكن لإثيوبيا وزن سياسي كبير، بقدر ما كان لها دور ثقافي في افريقيا، واتحاد دول جنوب آسيا للتعاون الإقليمي يتخذ من العاصمة النيبالية مقرا له، على الرغم من عضوية الهند وباكستان وبنغلاديش فيه. المشكلة الثانية تتمثل في القمة العربية بوصفها الحدث الأبرز في أعمال الجامعة العربية، وهذه المنظومة تحتاج إلى إصلاح يتمدد لمعالجة ميثاقها، وما يتعلق فيه بالتصويت، ووجود مفاهيم غامضة داخله مثل التوافق، ما أدى أحيانا إلى وجود ضغوط معنوية على بعض الدول العربية، ويمكن أن قمة الرباط 1974 مثلت ذروة الدور الذي تلعبه الدولة المستضيفة في انتزاع قرارات توجد عليها تحفظات من بعض الدول المشاركة، وهو إعلان منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للفلسطينيين، حيث وجد الملك الحسين بن طلال نفسه وسط مواقف ضاغطة، وأخرى غير مساندة بالطريقة الكافية، والواقع أن هذه القمة أديرت من الكواليس أكثر من القاعة التي كانت تضم القيادات العربية. لا يمكن القول إن هذه الظاهرة متواصلة، فالمحاور التي ظهرت في قمة الدوحة 2009 أخذت تفرض نفسها على عمل القمم العربية، ولمفارقة توترها وتشنجها، أصبحت القمة حدثا للتجنب والتهرب من نزاعات يعرف الجميع أنها غير منتجة في قرارات القمة، وأنها ستلقي بآثار على العلاقات الثنائية، ليصبح العائد المتوقع من العملية كلها أقل كثيرا من التكلفة التي ستدفع من كل دولة على حدة. هذه الحالة لا يمكن أن تنفصل عن طبيعة الحالة البيروقراطية التي تعايشها الجامعة، فالأمين العام يتحول إلى موظف كبير من غير دور سياسي حقيقي، وتنشغل مؤسسات الجامعة في العمل التنظيمي الذي يفتقد للمحتوى الضروري من أجل الوصول إلى أجواء تستعيد للقمم العربية بعضا من قدرتها على التأثير.
تعيش المجموعة العربية حاليا ورطة عميقة، فهي على الرغم من كل التحديات تمتلك بعضا من الفرص مع التحولات العالمية، وحالة السلبية التي تغذيها المشكلات الاقتصادية والأمنية والسكانية في أوروبا، والاستدارات تجاه عالم متعدد الأقطاب، وتجنب المخاطر والتعامل مع الفرص، يتطلب تعزيز الممكنات العربية بصورة مناسبة، وصولا إلى استعادة وجود ما يسمى بالموقف العربي، ولذلك فحالة من المكاشفة العملية والبراغماتية البعيدة عن الجانب العاطفي والتعبوي، يجب أن تفرض نفسها على الجامعة العربية، وأن يجري النقاش حول المقر ومنصب الأمين العام لتستعيد الجامعة شيئا من حيويتها، بجانب استضافة المؤسسات العربية في أكثر من دولة.
معظم التنظيمات الإدارية العربية أتت ضمن مفهوم استعارة مفاهيم حداثية من الغرب، في تعبير عن مركزيته للاندماج في المجتمع الدولي، وهذه حقيقة لا يمكن العودة عنها لتكلفتها وعدم وضوح البدائل، إلا أن الجامعة العربية فشلت في الاستفادة من تجارب العمل الإقليمي والقاري القائمة، وبقيت أسيرة المجاملات حتى أصبحت هذه الآلية ذات الدور الشخصي بكل تقلباته وحساباته غير قادرة على الإبقاء عليها كمنظمة فاعلة، في عالم يبحث عن التكتلات والتوافق داخلها، والاستفادة من نتائج أعمالها المشتركة، ويبدو أن على العرب البحث حاليا عن بروكسل تخصهم، وجامعة في نسخة جديدة مناسبة للعصر، ولكل المياه أو الدماء التي جرت تحت الجسر.