إقصاء أيمن عودة من الكنيست بداية لرحلة صيد طويلة

جواد بولس

حرير- تعتبر محاولة إقصاء النائب أيمن عودة رئيس قائمة الجبهة العربية للتغيير، من الكنيست، قمة في سياسة ملاحقة المواطنين العرب في إسرائيل، وانتصارا ساحقا، في حالة نجاح المحاولة، لفكر القوى اليمينية العنصرية والتيارات الفاشية، التي أنكرت دوما حق المواطنين العرب في المشاركة السياسية المتساوية مع مواطني الدولة اليهود. ونادت بضرورة تأطير حقوقهم السياسية والاجتماعية تحت سقف الدولة اليهودية، وتحجيمها بما تمليه نظرية «فوقية اليهود» وملاءمتها لكونهم أغيارا، حسب قوانين الشريعة اليهودية.

بهذا المعنى لا يجوز اعتبار هذه المحاولة عقابا فرديا ضد النائب عودة، أو ضد حزبه، كذلك لا يمكن عدم وضعها في سياق التطورات السياسية الجارية، وضمن ما اصطلح على تسميته «بخطة الإصلاح القضائي»، التي لا تعني إلا الانقلاب على نظام الحكم القديم، واستبداله بنظام حكم ديكتاتوري عنصري، يعتمد على ركائز فاشية. وتقوده «أغلبية يهودية مستبدة عمياء بسبب تعصبها القومي، وصمّاء بسبب جهلها التاريخي، وتسعى لقمع وإسكات كل صوت عربي ناقد، حازم وديمقراطي»، كما جاء في افتتاحية جريدة «هآرتس» العبرية، المنشورة في مطلع الشهر الجاري التي خصصتها ضد الحملة المسعورة على النائب عودة.

لم تتوقف حكومة نتنياهو، المدعومة بأكثرية مطلقة في الكنيست، عن سعيها لتنفيذ ما أعلنته مركباتها الحزبية على جميع الجبهات، وتأمين كل «التدابير القانونية» لسيطرتها على جميع مرافق الدولة الحيوية، ومراكز التأثير والقوة؛ ووراءها يقف برلمان جاهز لتشريع القوانين والأنظمة الكفيلة بتأمين المرجعيات والأدوات الناظمة لعلاقة الديكتاتور وأجهزته بالغير، خاصة ضد من تعتبرهم معارضيها أو أعداءها، وفي مقدمتهم بطبيعة الأمر نحن، المواطنين العرب. لقد تم التصويت على طلب إقصاء النائب عودة داخل لجنة الكنيست، فحظي الطلب بدعم أربعة عشر نائبا ومعارضة نائبين؛ الا أن القرار لن يصير نهائيا إلا اذا حظي بدعم 90 نائبا من أصل 120، أي بدعم ثلثي أعضاء الكنيست. وتشير التقديرات الحالية إلى أن تأمين هذا النصاب صار محتملا، بعد تصريح يئير لبيد زعيم حزب «يش عتيد» العنصري الداعم للفاشيين، بأن حزبه الذي يملك 24 مقعدا سيصوت لصالح القرار وسيدعم موقف الائتلاف الحكومي.

نعيش في راهن يضج بالعبثية واللامعقول؛ فتهمة التحريض نسبت لأيمن عودة لأنه كتب قبل ستة أشهر باللغة العبرية على منصة x ما يلي بالحرف الواحد: «أنا سعيد من أجل تحرّر المختطفين والأسرى. من هنا يجب تحرير الشعبين من نير الاحتلال، لأننا ولدنا أحرارا». واللامعقول أن نجد، من بين أعضاء الكنيست الموقعين على طلب إقصائه، مَن نادوا بإحراق غزة وهدمها، وتجويع وتهجير أهلها، وأيدوا عمليات القتل والابادة الجارية منذ واحد وعشرين شهرا. وقلنا: لم تعد عند هذه الحكومة ومؤيديها محظورات، لا بوازع القانون ولا بدافع الأخلاق ولا بخوف من السماء.

لا نعرف كيف ستنتهي هذه القضية، فحتى إذا صوّت ثلثا أعضاء الكنيست لصالح قرار إقصاء النائب عودة، ستبقى لديه فرصة الالتماس لمحكمة العدل العليا الإسرائيلية والطعن في قانونيته، فلننتظر. أما في هذه الأيام فعلى جميع هيئات المجتمع العربي ومؤسساته وقياداته، التحرك ضد حملة الإقصاء. أقول الجميع وأقصد أيضا تلك التيارات والحركات السياسية والدينية، التي تعارض المشاركة في انتخابات البرلمان بدوافع عقائدية أو سياسية؛ لأن مؤشرات هذا القرار هي أبعد من عتبة أيمن عودة وحزبه، وخطورة تداعياته ستطال، حتى إذا سقط المقترح في النهاية، جميع قطاعات وشرائح المجتمع العربي، الذي سيواجه مزيدا من حملات القمع المنظم، والملاحقة المكثفة، لضرب شرعية ما تبقى من مؤسساته السياسية والمدنية، والنيل من قياداتها، وترسيخ واقع ترهيب المواطنين وتدجينهم.

لا يمكن الرهان على نوايا الحكومة الإسرائيلية ولا على حلم أعضاء الكنيست والتزامهم بقواعد العمل الديمقراطي، في حماية حقوق الأقليات والمعارضين؛ ولا يجوز التصرف بانتهازية وبفذلكة سياسية كيدية، كتلك التي بدرت عن النائب منصور عباس، في مقابلته قبل أيام مع الصحافيين عميت سيغل وبن كسبيت، فكل الذرائع ومحاولات الشرح من قبله ومن قبل حزبه لما قاله بحق أيمن عوده لا تبرر إقدامه على القول إن «أيمن عودة لا يستحق شرف الإقصاء من الكنيست»، ولا من استفزازية الطريقة التي استعملها، محابيا ومسترضيا صحافيين معروفين بمواقفهما العنصرية إزاء الفلسطينيين والعرب. لم ينجر النائب عودة، ولا هيئات حزبه، وراء تصريحات النائب منصور عباس غير المسؤولة؛ بل على العكس، فقد سمعناه يطالب بتهدئة الأمور، وإغفال تفاصيل تلك الحادثة، وإعطاء الأولوية لفرص العمل المشترك والوحدوي، حتى مع حزب منصور عباس، مشيرا لخطورة المرحلة والتحديات التي ينتظرها المجتمع العربي، ومسؤولية الجميع لمواجهتها بحكمة وبإصرار وبعزيمة ودون تخاذل، أو تنازل أو مقايضة الحقوق والكرامة بفتات وبوعود كاذبة. وقد كتب عودة بهذه الروح على صفحته مؤخرا وقال: «لا نملك غير حل واحد ووحيد وأوحد وهو، الثبات على مواقفنا. هكذا فقط ندافع عن حق اكتسبه شعبنا عبر عشرات السنين من النضال، وهو توسيع مساحة حرية التعبير»؛ وأضاف: «مواقفنا وطنية إنسانية ومواقفهم عنصرية فاشية»، وتبقى المشكلة في كيفية الوصول إلى طريق الثبات ومواجهة وحشية العنصرية والفاشية.

كان متوقعا أن تؤدي الحملة على النائب عودة إلى ردات فعل أكبر مما شاهدناه حتى اليوم؛ فرغم استيقاظ بعض تنظيمات الجبهات المحلية وقيادييها، نرى أن عزوف الأكثرية بين مؤيدي الجبهة القطرية، وبعض قيادييها واضحا، وهو أكثر وضوحا بين مؤسسات الأحزاب والحركات الأخرى، وتنظيمات المجتمع المدني. في المقابل كان تأثير الحملة داخل المجتمع اليهودي لافتا ومهما؛ إذ تحركت عدة قطاعات وشرائح وازنة للتعبير عن رفضها محاولة الإقصاء. وتحدث بعضهم من على منصاته ضد الحملة، بينما أشهر آخرون العرائض التي حملت تواقيع آلاف المواطنين اليهود. فقد نشر النائب عودة على صفحته عريضة وقعها ألفان وخمسمئة كاتب وشاعر يهودي، يعلنون موقفهم ضد الإقصاء، وقبلهم نشر مئة وثمانون فنانا سينمائيا ومسرحيا عريضة مشابهة، وقبلهم نشرت عريضة موقعة من قبل مئة وخمسين محاضرا في كليتي الحقوق والعلوم السياسة في جامعات إسرائيل، وكذلك نشرت عدة مقالات في معظم المواقع والصحف الإسرائيلية تندد بالحملة وبخطورتها على مكانة المواطنين العرب، لا على حقهم في المشاركة السياسية وفي التعبير عن الرأي وحسب. إن ظاهرة تنامي الصوت اليهودي المندد بسياسة القمع وبالعنصرية، وان كانت متواضعة الحجم والتأثير لغاية الآن، تثلج الصدر وتبعث بصيص أمل. أما غياب صوت النخب الأكاديمية العربية والفنانين، وانعدام أي حراك شعبي جدّي وصمت بعض القيادات البلدية المحلية والحزبية، خاصة من قبل النواب العرب الأعضاء في أحزاب الليكود ويسرائيل بيتينو وكاحول لافان وهم (عفيف عبد وحمد عمار وأكرم حسون) تسجل كلها كمؤشرات منذرة للسيئ الآتي.

القضية ليست قضية أيمن عودة ولا هي مسألة إقصائه من الكنيست وحسب؛ إنها طلقة موجهة إلى صدر المجتمع العربي، والى جباه جميع الليبراليين اليهود والعرب، الانتهازيين أو الصادقين، فإما أن يتصدوا لها وإما أن يسقطوا عند أقدام الفاشيين ومخططاتهم؛ ومن لا يشعر بالطلقة ولم يسمعها، فليتذكر أن كوابح أنظمة الدولة، اتلفتها مراكز القوى الجديدة، وكل الحصون هزمت والحدود محيت، ولم يبق شرع إلا شرع «بلعام بن بعوراء» الذي جاء على لسانه في «سفر العدد» في التوراة: «هوذا شعب يقوم مثل شبل، ويرتفع كأسد؛ لا ينام حتى يفترس فريسته ويشرب دم القتلى». إنه بلعام الذي كان قدوة حكومة نتنياهو وهاديها إلى اسم حربها على فارس وهو «شعب كأسد». ويبقى السؤال عالقا: هل سيستيقظ الغفاة والمضللون والانتهازيون واليائسون، وان لم يكن الآن، فمتى؟

مقالات ذات صلة