
من رواندا إلى سربرينيتسا وصولا إلى غزة… حروب الإبادة لم تتوقف
عبد الحميد صيام
حرير- مساء السادس من أبريل 1994 أطلقت النار على طائرة الرئيس الرواندي المنتمي لعرق الأغلبية الهوتو، جوفينال هابيارإمانا، وأدت إلى سقوطها ومقتل الرئيس الذي كان قد وقّع اتفاقية سلام مع الجبهة الوطنية الرواندية، في أروشا بتنزانيا عام 1993، تقوم على دمج الجبهة في الدولة، رغم اعتراض العناصر المتطرفة من الهوتو. فما أن أعلن عن مقتل الرئيس حتى تحولت وحدات الجيش والشرطة والغالبية الساحقة من عرق الهوتو إلى ميليشيات قتل وتطهير عرقي ومجازر لعناصر التوتسي، بنية قتل كل من ينتمي إلى هذا العرق. استمرت المجازر 100 يوم متواصلة قتل فيها بين ثمانمئة آلاف، ومليون إنسان، ويقدر عدد النساء اللواتي اغتصبن نحو خمسمئة ألف أو أكثر. وقد تم تصنيف الأحداث «إبادة جماعية» وأنشئت محكمة جنائية خاصة برواندي مدينة أروشا حاكمت 93 مجرم حرب، أدين منهم 62، من بينهم رئيس الوزراء وعدد من الوزراء والضباط وإعلاميون كانوا يحرضون على القتل. كما صدرت أحكام عالية ضد المئات في محاكم الدولة. بينما حوكم نحو 1.2 مليون إنسان، أدين منهم 150000 في محاكم محلية تقليدية.
في 11 يوليو 1995، أي قبل ثلاثين عاما، وفي بلدة سربرينيتسا في البوسنة والهرسك، فُصلت الميليشيات الصربية الحاقدة أكثر من 8000 رجل وفتى بوسني مسلم عن عائلاتهم بشكل ممنهج، وأُعدموا جميعا، ثم دُفنوا في مقابر جماعية تحت إشراف الجنرال راتكو ملاديتش. كانت حرب التطهير العرقي ضد المسلمين مستمرة في البوسنة منذ عام 1992 حيث تم اغتصاب أكثر من 60 ألف امرأة، واقتلع آلاف الأطفال والنساء والأطفال وكبار السن قسرا من بيوتهم. جيل كامل فقد مستقبله بعد أربع سنوات من المجازر. كان الهدف إبادة جميع مسلمي البوسنة. أنشئت محكمة جنائية خاصة بمحاكمة مجرمي الحرب استطاعت أن تدين نحو 50 مجرم حرب من بينهم الرئيس الصربي ميلوسوفيتش وقائد الميليشيا ملاديتش ورئيس إقليم صربيا المنشق عن البوسنة رضوان كاراجيك.
مجازر رواندا والبوسنة، هزت ضمير الإنسانية، وبعدها مباشرة بدأ التحضير لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية التي اكتمل نظامها الأساسي في روما عام 1998 وباشرت عملها عام 2002. ثم اعتمد المجتمع الدولي عام 2005 الوثيقة التاريخية بالإجماع «مسؤولية الحماية». كان الأمل الّا تتكرر هذه المجازر. ورفع شعار «لن تحدث مرة أخرى» (Never Again). لكن للأسف تكررت المجازر في أفغانستان والعراق والكونغو وجمهورية افريقيا الوسطى وميانمار وكشمير وفلسطين. العالم لا يأبه كثيرا عندما يكون الضحايا عربا ومسلمين وأفارقة، لكنه يتحرك بقوة إذا كانوا من ذوي الشعر الأشقر والعيون الزرقاء، كما حدث في أوكرانيا وإسرائيل.
حرب الإبادة في غزة
جذور حروب الإبادة في رواندا وفلسطين، وحتى في البوسنة تعود إلى عهود الاستعمار وسيطرة الدول الكبرى على الدول الفقيرة، وفرض إراداتها على السكان المحليين. بريطانيا زرعت الكيان الصهويني في فلسطين على حساب سكانها الأصليين وانحازت للأقلية اليهودية على حساب الغالبية العربية، فمكنت الأولى وقوّت شوكتها، حتى استطاعت أن تحتل 78% من أرض فلسطين، وتطرد ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني خارج أرضه ووطنه. وبلجيكا انحازت للأقلية التوتسية، على حساب الغالبية الهوتية، رغما عن أنوفهم. وفي تشكيل الدول الكبرى بعد الحربين العالميتين، فرض على الأقليات أن تنضم لكيانات دون إرادتها، وقمعت أي محاولة للانفلات مثل البوسنة. فما إن لاحت بوادر نهاية الحرب الباردة، وتفكك الكتلة الاشتراكية حتى تفككت هذه الدول وأصبحت يوغسلافيا سبع دول والاتحاد السوفييتي 15 دولة وانفك التشيك عن السلوفاك وتوحد الألمان الذين أجبروا على الانقسام.
حادثة 7 أكتوبر تشبه حادثة إسقاط طائرة الرئيس الرواندي هابيارإمانا، كلاهما اعتبر الشرارة التي أطلقت حرب الإبادة، رغم أن العديد من المجازر سبقت هاتين الحادثتين في رواندا وغزة. لكن الحادثتين اعتبرتا بداية التاريخ، وتمنع الإشارة إلى ما قبل 6 أبريل في رواندا و7 أكتوبر في غزة. لقد خذلت الأمم المتحدة الشعب في رواندا والبوسنة وغزة. قلصت بعثتها في كيغالي، وانسحبت أمام ميليشيلت ملاديتش في سربرنيتسا، وعجزت في غزة عن حماية موظفيها، أو عن إدخال الماء والدواء والغذاء. لم يكن هذا الفشل الجماعي وليد الصدفة التاريخية، بل كان نتيجة سياسات ودعاية ولامبالاة دولية وعربدة القوي المدعوم من الخارج. في الحالات الثلاث رفضت دول الاستعمار أن تعترف بأن ما جرى في رواندا والبوسنة والآن في غزة، بأنها جرائم «إبادة جماعية»، وقد أخذت أربع سنوات حتى اعترفت الدول الغربية، بأن ما جرى في رواندا حرب إبادة ثم أقرت محكمة العدل الدولية عام 2007 بأن ما جرى في البوسنة حرب إبادة، لكنها برأت صربيا من تلك المجازر. ولا نعرف متى ستقرر محكمة العدل الدولية وتحسم أمر الشكوى التي قدمتها جنوب افريقيا حول ما يجري في غزة منذ 7 أكتوبر أهو «إبادة جماعية» أم لا.
حرب الإبادة في رواندا وفي البوسنة كانت لهما بداية ونهاية، وكان القاتل والمقتول ينتميان للبلد نفسه وليس للعرق أو الدين نفسيهما. أما في حالة غزة فكيان الاحتلال يملك جيشا من أقوى الجيوش في العالم، خاصة في سلاح الجو والمسيرات وتطبيقات الذكاء الصناعي والاستخبارات. كما أن إسرائيل مدعومة دعما كاملا غير منقوص من الدولة الأعظم والأقوى في العالم. فالولايات المتحدة دخلت الحرب تماما إلى جانب إسرائيل، سلاحا وعدة وتمويلا واستخبارات وتكنولوجيا وغطاء دبلوماسيا في الأمم المتحدة، واستخدمت الفيتو خمس مرات. أضف إلى ذلك ما قدمته ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وكندا واستراليا وغيرها، التي اصطفت خلف إسرائيل تحت حجة «حق الدفاع عن النفس». أما عن الضحايا فهناك مليونا إنسان محاصرون منذ عام 2007 وتحت احتلال إحلالي استيطاني دموي منذ عام 1967. وهذا القطاع المحاصر لا تزيد مساحته عن 365 كليومترا مربعا. وقد أطبقت مصر بعد انقلاب 2013 الحصار على القطاع، وتعرض لحروب عام 2006 و2008-2009 و2012 و2014، وخلال مسيرات العودة 2028-2019 و2021 خلال معركة سيف القدس.
الفرق الآخر بين الإبادة الجماعية في رواندا والبوسنة، عن تلك التي في غزة في حجم الدمار. في غزة تم تدمير 92 من مباني القطاع. دمرت المدارس والجامعات والمستشفيات والعيادات، ومراكز الإيواء ومولدات الكهرباء ومحطات ضخ المياه والطرق والخيام والمخابز والمحلات التجارية والأرض الزراعية والآبار. حولت القطاع إلى أرض بلقع لا حياة فيها مع قطع الماء والكهرباء والدواء والوقود. قتلت الصحافيين وعمال الإغاثة وموظفي الأمم المتحدة، وجرّمت وكالة الأونروا وقتلت عمال الصليب الأحمر والهلال الأحمر والمعلمين والأساتذة والطلاب وذوي الاحتياجات الخاصة. ثم يأتي مستوطن عين سفيرا في الأمم المتحدة، ويعلن بكل عنجهية بأن الجيش الإسرائيلي «الأكثر أخلاقا في العالم».
الغريب أن رواندا أثناء إحياء الذكرى الثلاثين لحرب الإبادة، يوم 7 أبريل 2024 دعت رئيس الكيان الصهيوني إسحاق هيرتسوغ للمشاركة، فقام بوضع إكليل على نصب ضحايا الإبادة، في الوقت نفسه، الذي كان الكيان الصهيوني يرتكب أكبر مجازر في العصر الحديث منذ الحرب العالمية الثانية، أي مهزلة أكثر من هذه في مجتمع دولي يداري على القتلة والمجرمين.