
في أحوال الفرجة العربية بين الأيديولوجيا والشعبوية
سامح المحاريق
حرير- تغزو صفحة موقع إيران بالعربي مواقع التواصل الاجتماعي بأخبارها المفرطة في التفاؤل، تجاه تحقيق الإيرانيين ضربات موجعة لإسرائيل، ومع أن بعضا من هذه الضربات تحققت في وقت لاحق، إلا أن الملاحظ هو، مشاركة الكثيرين لأخبار الصفحة ومنهم شخصيات حظيت بتعليم متقدم، وبما يشكل إهمالا لأبسط متطلبات التحقق من صحة الخبر ومنطقيته، وكأن التاريخ في هذه المنطقة متوقف منذ الستينيات، ويعيد نفسه المرة بعد الأخرى عبر تقديمه وجوها لا تنسى مثل محمد سعيد في «صوت العرب» الستينيات، ومحمد سعيد الصحاف مع غزو بغداد 2003.
الغمامة الأيديولوجية مصطلح ظهر في أعمال مدرسة فرانكفورت النقدية التي تأسست بين الحرب العالميتين، وفسرت من خلاله جانبا من فشل الثورات الاجتماعية في أوروبا، لأن الأيديولوجيا في حد ذاتها هي شبكة مساعدة ودعم لتماسك المجتمع، ولفهم هذه العبارة تظهر الأيديولوجيا بوصفها العامل السائد الذي يدفع بعضا من الدول، لخوض المعارك الخاسرة من غير أن تعنى بتبريرها أو تسويقها لدى الشعوب، على أساس أن الأيديولوجيا يمكن أن تقوم بهذه المهمة وتتكفل باللازم، وأن الأكاذيب التي يمكن أن تضخها آلات الدعاية الرسمية ستجد مكانها لدى جمهور تتملكه الأيديولوجيا.
الحالة ليست على هذه الشاكلة في الحرب بين إيران وإسرائيل، التي أخذت توسع قاعدة مناصري إيران في الدول العربية، ولكن المحرك الأيديولوجي لمواقفهم يبدو واضحا، ويستغلق أمام وقائع الحقيقة البسيطة، ويغض النظر عن التحليل المباشر للأحداث، ليصنع أخبارا موازية، تستدعي أمنيات تحطيم صدام حسين لإسرائيل بالأسلحة الكيماوية في مطلع تسعينيات القرن العشرين، مع أن جذر المشكلة لم يكن حربا بين العراق وإسرائيل، ولكنه اعتداء على أراضي دولة الكويت واستقلالها، ومحاولة ابتلاعها تحت طائلة ادعاءات تاريخية لا مجال لها في العصر الحديث، عدا عن أنها تتجاهل ببساطة وجود شعب كويتي استطاع هو الآخر أن يقدم للعالم أوراق اعتماده وتفرده، وكان من خلال دولته الصغيرة يتوثب في عوالم كثيرة ويفرض اسم الإمارة الصغيرة في الكثير من المحافل الدولية.
بينما تتوزع الجماهير العربية بين سلوك (ألتراسي) يشبه ما ينتهجه مشجعو فرق كرة القدم، تحاوط الغمامة الأيديولوجية النخبة العربية، وتجعلها تنفصل عن الواقع، وتبدأ في اتخاذ المواقف بناء على الأمنيات، وما يتشكل من خطر حول هذه الحالة لا يرتبط بالحرب الجارية بين ايران ودولة الكيان وحدها، ولكنه يمثل حالة من العجز العربي وتهربا من الأسئلة التي أدت بالدول العربية إلى هذه الحالة من السلبية، وكأنها أرض لصراع عالمي مقبل، لا تمتلك فيه إلا أن تكون الأرض التي يجري عليها الصراع، وأن أي نتيجة في المحصلة النهائية والبعيدة، هي ليست لمصلحة الشعوب العربية. لمشهد الصواريخ الإيرانية في سماء تل أبيب أثره الهرموني على المتابعين العرب، فهو مشهد طالما وعدتهم به تصريحا وضمنيا بعض الأنظمة العربية، والدوبامين الذي يتمدد في عروقهم وهم يتابعون أخبار القصف حتى ساعات متأخرة، يجعلهم في حالة غير صالحة لاستصدار الأحكام الواقعية، بل يتخذ الأمر سلوكا رافضا للواقع، في سخرية تنضوي على قدر من المرارة الخفية، مع التعليق الساخر بمطالبة المصريين لإيران بإطلاق الصواريخ في مواعيد مبكرة، ليتجنبوا السهر ويتمكنوا من الذهاب إلى العمل في الصباح.
في المقابل، يصر آخرون، في تلافيف النخبة ومختلف طبقات الجمهور، على أن النظام الإيراني في طريقه للانهيار، وأن تدخلا أمريكيا حتميا سيحسم الموقف في إيران ويطيح بنظامها في أيام قليلة، وتتغيب عنهم النتائج الكارثية التي يمكن أن تنتجها توقعاتهم على هذا الصعيد، والثمن الباهظ الذي ستتكبده المنطقة نتيجة ذلك، والخطر الكامن في انكسار حالة توازن امتدت لعقدين من الزمن تقريبا، في مرحلة لا يمكن للدول العربية أن تكون شريكة في صناعة حالة التوازن الجديدة.
حالة المتابعة السلبية التي تعيشها الدول العربية، ووجود فراغ في القدرة على الفعل في دولتين عربيتين بين ايران وإسرائيل، سوريا والعراق، ومع حالة من الحيرة في التعامل مع نخبها وجماهيرها، يأتي الأردن في المقابل ليتعايش مع اتهامات مرسلة تطالها اتهامات عندما تتصدى للصواريخ والمسيرات الإيرانية، مع أن الحالة الأخرى، وهي وجود أجسام إسرائيلية في سمائها لم تتحقق حتى الآن، والطائرات الإسرائيلية تحلق في قوس يمتد عبر سوريا والعراق، والأردن لم يصدر إدانة لأي أعمال عسكرية إيرانية، ولكنه تواصل من أجل توضيح موقفه الذي يفترض أنه يعمل في الاتجاهين، بينما التحدي الواقعي يمضي في اتجاه واحد. يستهلك المتابعون العرب أنفسهم في حرب بغض النظر عن نتائجها، سترسم جانبا من مستقبلهم بعيد المدى، وستكون نهايتها إعلانا برسملة استثمارات هائلة، تمت من خلال الدول العربية، في نتيجة يمكن أن تكون سلبية بشكل مطلق، وينساق الإعلام العربي في الحدث نفسه، مع أن الحرب تحمل آثارها العالمية، وله مقدمات وخلفيات كثيرة، والحقيقة الغائبة هي أن الوجه الغائب عن فهم هذه الحرب بصورة متكاملة يكمن في تفهم المآلات التي وصلتها الدول العربية بشكل عام، والتهالك الذي أحدثته منظومة تعاطيها القائمة، بكل أدواتها المختلفة، والثمن الذي تتكبده نتيجة حالة الاستقطاب والتزاحم تجاه القيادة غير المنتجة، والتي سترتب أعباءً بأكثر مما تمنح من مزايا.
هي حرب الأيديولوجيا بين نظامين يقومان على بنية أيديولوجية واضحة، وبجانب باكستان والفاتيكان، فلا توجد دول أخرى تعتبر الدين جوهريا في نظام الحكم ورؤيته للعالم، وبالتالي، قراراته وتصرفاته، فالإسرائيليون يديرون الحرب باستدعاء رموز توراتية، بما يجعل التشكك في البحث عن محصلة تتسق بالنبوءات الدينية قائمة لديهم، والإيرانيون يستندون إلى شرعية دينية تُحمل التاريخ مسؤولية التعاطي مع الحاضر، وفي الحالتين، تمتد بينها أرضٌ مسكونة بالأيديولوجية المستوردة من مخلفات الحالة الأوروبية (قوميون ويساريون) أو دينية هي الأخرى في نسخة تائهة بين الدولة (المستحيل) استعادتها، ونموذج لا يعدو كونه نظاما جديدا ضمن الشروط نفسها السائدة في العالم، سيتعامل داخل حدود المتاح والممكن والمفروض.
لا يبدو أن أي رؤية عربية، رسمية أو نخبوية أو شعبية، تتشكل في هذه المرحلة، لأن الجميع مستغرق في متابعة الحدث من وراء غمامته الأيديولوجية، أو موقعه بين مشجعي الألتراس، ولكن ما وراء الحدث يحمل تفاصيل كثيرة ومعقدة ويجب تحريره ليصل إلى رؤية بسيطة وهي، أن الصراع القائم في الأساس هو على الأرض الممتدة بين الطرفين، وأن خسائر حالة التوازن السابقة، ربما لن تكون شيئا أمام مرحلة من كسر التوازن تقترب بكل استحقاقاتها وأزماتها لتصبح واقعا جديدا، يمكن أن آخر الحلول التي تصلح معه هي الفرجة، ولكنها حتى الوقت الراهن على الأقل، تبدو خيارا وحيدا.