
مراكز الإغاثة: حين يصبح الخبز طُعمًا في مصائد الموت الإسرائيلية
اسماعيل الريماوي
حرير- في سياق الحرب الإسرائيلية المفتوحة على قطاع غزة، والتي تتجاوز في عنفها وأدواتها كل ما شهده القطاع من ويلات منذ نكبة عام 1948، لم يعد من الممكن فصل البعد العسكري عن البعد الإنساني في أدوات الاحتلال، بل إن ما يُعرض على أنه «مساعدات إنسانية» لم يعد سوى امتداد مباشر للحرب بوسائل أخرى، فقد ابتكر الاحتلال الإسرائيلي خلال الأشهر الماضية آلية جديدة لتوزيع المساعدات الغذائية والإنسانية داخل قطاع غزة، زاعمًا أنها تأتي ضمن ما تسمى بـ«المناطق الآمنة» التي يحددها بشكل أحادي، لكن هذه الآلية في حقيقتها ليست سوى مصائد للقتل الجماعي وأدوات للتهجير القسري، تُوظف ببرودة أعصاب لتعميق المعاناة الإنسانية ودفع السكان نحو خيارات الموت أو النزوح.
ففي مشاهد مروعة تكررت مرارًا، تجمع الآلاف من سكان غزة حول مراكز المساعدات، لا ليجدوا الغذاء الذي يخفف عنهم جوعهم، بل ليكونوا هدفًا مباشرًا لرشاشات الاحتلال وقذائف طائراته، مواقع تحولت إلى ساحات ذبح جماعي تحت مسمى توزيع الإغاثة، وفيما يبدو ذلك للوهلة الأولى وحشية غير مبررة، فإنه في الحقيقة جزء من استراتيجية ممنهجة تهدف إلى استخدام الحاجة الإنسانية الماسة كسلاح ضغط يدفع السكان إلى مغادرة أماكنهم والنزوح في اتجاه مناطق محددة يراد لها أن تكون نقاط تجميع وتفريغ سكاني وفق خريطة إسرائيلية معدة سلفًا
آلية التوزيع المفروضة لا تُبنى على أساس الحياد الإنساني أو التنسيق مع الجهات المحلية أو الدولية النزيهة، بل تعتمد على سيطرة الاحتلال الكاملة على خطوط الإمداد والتموين، واختياره الدقيق لمواقع الإنزال وطبيعة المتعاونين المحليين أحيانًا في عمليات التنظيم، بحيث تُحول هذه العمليات إلى أدوات ابتزاز علني وصامت معًا، يُجبر السكان على الزحف مئات الأمتار سيرًا على الأقدام نحو مناطق «آمنة» مزعومة، تُحدد فجأة في مناطق بعينها، غالبًا تكون محاذية لمحاور يريد الاحتلال تفريغها من أهلها أو دفع الكثافة السكانية نحوها تمهيدًا لترحيلها، كما يتعرض الناجون من المجازر في تلك المواقع لاحقًا لحصار الخدمات وشح المياه والغذاء، ما يعيد إنتاج دوائر التهجير من جديد.
اللافت في هذه السياسة أنها لا تكتفي بتدمير البنية التحتية وإبادة البشر من الجو، بل توظف الجوع بصفته أحد الأسلحة الميدانية الأكثر فتكًا وتأثيرًا على قرار البقاء والصمود، والاحتلال الإسرائيلي هنا لا يبتكر سلاحًا جديدًا، بل يعيد استخدام تكتيكات استعمارية قديمة مارستها القوى الاستعمارية الكبرى في أفريقيا وآسيا، حين كانت تفتح ممرات الإغاثة في مقابل الولاء أو النزوح أو الخضوع، الفارق فقط أن إسرائيل تمارس ذلك أمام أعين العالم، وتحت يافطات الأمم المتحدة، ومنصات الإعلام الغربي الذي لا يكترث لأسماء الأطفال القتلى ما داموا في الجانب الفلسطيني من التاريخ.
لا تنفصل هذه الاستراتيجية عن المشروع الأكبر الذي يتضح أكثر يومًا بعد يوم: تحويل القطاع إلى كيان منزوع الكثافة، مفكك الأحياء، مطارد الجغرافيا، بلا مركز ولا هوية مكانية واضحة، حيث تتحول «المساعدات» إلى وسيلة إعادة هندسة الساحة الميدانية ديموغرافيًا وجغرافيًا، بما يتواءم مع خطة الاحتلال لفصل شمال القطاع عن جنوبه، ثم تقسيم الجنوب نفسه إلى مربعات أمنية يسهل التحكم بها ومراقبتها، وعلى هذا الأساس، تبدو المجازر المرتبطة بمواقع توزيع المساعدات ليست انحرافًا عن المسموح في «الحرب»، بل هي جوهر التكتيك الإسرائيلي في هذه المرحلة: اغتال الجائع حين يمد يده للطعام، ثم قل للعالم إنك أرسلت له الإغاثة ولم يأتِ إليها بسلام.
إن ما يجري اليوم في غزة هو تحويل شامل للغذاء إلى سلاح تهجير لا يقل فتكًا عن البراميل المتفجرة، وهو استخدام مقصود وممنهج للجوع كأداة هندسة سكانية يراد بها تفريغ ما تبقى من القطاع، أو على الأقل إعادة ترسيم خطوط النفوذ والتحكم فيه بعدد أقل من البشر، وضمن مساحة أقل من الأرض، إنها نكبة جديدة تُنفذ بأدوات أقل صخبًا من الطائرات، لكن بنتائج لا تقل خطورة على هوية المكان وحق أهله في البقاء.
إن ما يمارسه الاحتلال الإسرائيلي اليوم في قطاع غزة يتجاوز كونه عدوانًا عسكريًا تقليديًا أو حصارًا اقتصاديًا طويل الأمد، بل هو نموذج جديد من حروب الإبادة الباردة، حيث يُختبر الفلسطيني بين فكي الموت جوعًا أو الموت قصفًا، وحيث تتحول المساعدات إلى أدوات تعذيب جماعي وتمهيد ميداني لاقتلاع السكان من أرضهم، في هذا السياق، لا تعود المجازر المصاحبة لتوزيع الإغاثة مجرد تجاوزات عسكرية أو أخطاء في التنسيق، بل هي محطات محسوبة في مشروع تهجيري عميق، يهدف إلى إعادة إنتاج النكبة بأدوات أقل صخبًا لكنها أشد دقة وفعالية، إن الصمت الدولي عن هذه السياسة لا يعفي أحدًا من المسؤولية، كما أن واجب اللحظة لا يقتصر على كشف الجريمة وتوثيقها، بل يقتضي أيضًا مقاومة بنيتها ورفض التسليم بمحدداتها، لأن كل اعتراف بهذه الآلية هو قبول ضمني بشروط التهجير ومسوغاته، فالمعركة على الخبز لا تقل قدسية عن المعركة على الأرض، ومن يفقد حقه في الوصول الحر إلى رغيفه، يفقد لاحقًا حقه في العودة إلى بيته.
عندما ننظر الى غزة اليوم، حيث لا يذهب الجائع إلى رغيفه، بل يُساق إليه كما يُساق الفخ إلى فريسه، حيث يُراد للطفل أن يموت مرتين: مرة حين يفقد أهله وبيته، ومرة حين يهرع إلى مراكز المساعدات فيجد الرصاص في انتظاره، في غزة، لا يحمل الخبز النجاة، بل يحمل خريطة التهجير، ولا تأتي المساعدات بيد الرحمة، بل بأصابع التصويب، إن ما نشهده ليس مجرد مجاعة تحت الحصار، بل مجزرة تحت قناع الغذاء، ونكبة تُنسج بخيوط الدقيق والدم معًا، وإن السكوت عن هذه السياسة لا يُسقط فقط أخلاقيات العالم، بل يُسقط معه بقايا المعنى في مفهوم الإنسانية ذاته، في هذا الظلام الذي يُفرض على غزة، يصبح كشف هذه الجرائم والمجاهرة بها فعل مقاومة، ويصبح الدفاع عن رغيف الفلسطيني، دفاعًا عن جذوره وتاريخه وحقه في أن يبقى حيًا فوق أرضه، لا طريدًا ولا لاجئًا ولا جثةً تُرمى قرب شاحنة.